متقدم

فهرس الكتاب

 

التفاوت بين الكفار المحاربين وبين الكفار المسالمين للمسلمين

إن الله سبحانه حكم عدل، يعطي كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ولا يظلم ربك أحدًا، والاختلاف بين الناس واقع ما له من دافع، فمنهم المسلم ومنهم الكافر ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ [التغابن: 2]. ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ [هود: 118].

وقد فصل القرآن الكريم الحكم بين الفريقين؛ فأمر بقتال المحاربين حيث وجدوا، سواء كانوا قائمين أو نائمين، بطريق الهجوم أو الدفاع. كما أمر بأن يعامل المسالمون بما يستحقون من العطف والبر والصلة والإحسان، وأن الله سبحانه يبيح ذلك ولا ينهى عنه، يقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ [الممتحنة: 8]، فأمر سبحانه ببر المسالمين، والبر هو من أجمع أفعال الخير وضده الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، ويقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الإنفطار: 13-14].

وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقاربهم من المشركين، فأنزل الله سبحانه: ﴿ ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ [البقرة: 272]، فأمروا بالصدقة عليهم جزاء على مسالمتهم للمسلمين وعدم تعرضهم لقتالهم أو الطعن في دينهم. نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠ [النساء: 90]، وهذه الآية هي من سورة النساء وهي مدنية، كما أن الآية الأولى من سورة الممتحنة وإنما نزلت عام حجة الوداع، فلا نسخ في كلتيهما ولا تخصيص ولا تقييد، بل الحكم بمدلولهما ثابت معمول به إلى يوم القيامة.

ثم قال في شأن المحاربين: ﴿إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة:9]، فهذه من سورة الممتحنة التي نزلت يوم فتح مكة بسبب الكتاب الذي كتبه حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ إليهم، وصفة الكتاب على ما ذكره يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش، إن رسول الله قد جاءكم بجيش كالسيل يختبئ بالنهار ويسير بالليل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.

فنزل الوحي بخبر الكتاب بما يتضمن معاداتهم وعدم موالاتهم لاعتبار أنهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين، نظيره قوله سبحانه: ﴿فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ [النساء: 91]؛ أي حيث وجدتموهم، ﴿وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١؛ أي حجة بينة تبيح قتلهم وقتالهم، وضدهم المسالمون حيث قال في حقهم: ﴿فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠ يعني إلى قتالهم. فالآيات المطلقة التي تأمر بقتال الكفار تحمل على هذه الآيات المقيدة لجواز حمل المطلق على المقيد؛ لكون الكافر المسالم ما مضرة كفره إلا على نفسه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته السياسة الشرعية: إن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة: 190]، وذلك أن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 191]؛ أي إن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار للمسلمين من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، يعني فلا يقاتل. انتهى.

أما الكافر المحارب فإن مضرة كفره تتعدى إلى الناس في دينهم وأبدانهم، فهذا حكم العدل من الله بين عباده، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون.

يؤيده أن أكثر أهل الأرض كفار كما قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا أَنْتُمْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ»، وهذا يؤيد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم من أن الإسلام يسالم من يسالمه، وما ورد في القرآن من الشدة والغلظة على الكفار وكون المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم فهذه وأمثالها محمولة على حالة قتال المؤمنين للمحاربين، كقوله سبحانه: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧ [الأنفال: 57]، وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَا [محمد: 4]، فأمر الله عباده المؤمنين متى لقوا أعداءهم المحاربين بأن يضربوهم الضربة القاسية التي تثخنهم وتكون عبرة لأمثالهم، ولكل مقام مقال. والنبي ﷺ كان يعامل الكفار المقدور عليهم غير معاملته للمحاربين منهم.

فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256] وقوله: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس:99] وقوله: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48] دليل على صحة ما ذكرناه.