متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل [في قاعدة قتال الكفار]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قاعدة قتال الكفار في قوله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة: 190]: فقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ هو تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن قتالنا لمن لا يقاتلنا أنه عدوان، ويدل عليه قوله بعد هذا: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ [البقرة: 194]، وقوله بعد ذلك: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 191].

فأمر الله سبحانه بقتل من وجد من أهل القتال حيث وجد قائمًا أو نائمًا، وقال: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ و «حتى» لانتهاء الغاية، والفتنة هي أن يفتن المسلم عن دينه أو أن يمنع المسلمون عن نشر دينهم، كما كان المشركون يفتنون من أسلم عن دينه ويمنعون المسلمين عن نشر دينهم، وهذا إنما يكون بحالة الاعتداء على المسلمين، فيجب قتالهم حتى لا تكون فتنة، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا.

وأما قوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ فمن قال: إنها منسوخة بقوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ فقد غلط؛ فإن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها. وأما قوله: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ. فإنما يعني بهم المحاربين الذين يقاتلوننا، فإننا نقاتلهم على أي حال وجدوا قائمين أو نائمين، وهي عامة لكل من يحارب المسلمين في كل زمان ومكان إلى يوم القمامة.

وأما قوله: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ. فذكر ابن الجوزي في الاعتداء أربعة أقوال:

أحدها: أنه قتل النساء والولدان. قاله ابن عباس ومجاهد.

والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلوكم. قاله سعيد بن جبير وأبو العالية وابن زيد.

الثالث: إتيان ما نهوا عنه. قاله الحسن.

الرابع: ابتداؤهم بالقتل في الشهر الحرام.

ومثله قوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ، فقد زعم بعضهم نسخها وهو خطأ أيضًا، وقد قال الجمهور من السلف والخلف: إنها ليست مخصوصة ولا منسوخة بل يقولون: لا نُكره أحدًا على الإسلام، وإنما نقاتل من حاربنا، وإن أسلم عصم دمه وماله، وإن لم يكن من أهل القتال لم نقتله ولم نكرهه على الإسلام، فالذين نقاتلهم لحرابهم متى أدوا الجزية لم يجز قتالهم إذا كانوا أهل كتاب أو مجوس باتفاق العلماء.

وإن كانوا من مشركي الترك والهند ونحوهم، فأكثر العلماء لا يجوزون قتالهم متى أدوا الجزية كأهل الكتاب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين، وهي المنصوصة عنه.

ثم ذكر فتح مكة وأن رسول الله ﷺ مَنّ عليهم ولم يكرههم على الإسلام ولم يسأل أحدًا منهم: هل أسلمت أم لا؟ بل أطلقهم بعد القدرة عليهم، ولهذا سموا الطلقاء، وهم مسلمو الفتح ومنهم صفوان بن أمية ورجال آخرون شهدوا مع رسول الله حنينا وهم على شركهم، ولم يكرههم على الإسلام حتى أسلموا من تلقاء أنفسهم. ولا يقدر أحد قط أن ينقل عن رسول الله أنه أكره أحدًا على الإسلام لا ممتنعًا ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا. انتهى كلامه.

وقال أيضًا في السياسة الشرعية: إن الله سبحانه أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، والفتنة أكبر من القتل، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه. انتهى كلامه.

وإنني أعجب أشد العجب من العلماء المتمسكين بهذا القول الذي خالفوا به الحق والحقيقة، وخالفوا به نصوص القرآن الكريم، وخالفوا به نصوص مذهبهم وقول الجمهور، كأنهم بذلك يريدون نفع الدين والمسلمين من حيث يضرونهم وهم في الحقيقة لا الدين نصروا ولا الباطل كسروا.

وقد رُفع إلى العلامة ابن القيم رحمه الله خصومة وقعت بين رجلين أحدهما مسلم والآخر كافر تناظرا في مسألة علمية واشتد نزاعهما فيها، وكأن النصراني لم يجد عند المسلم ما يشفيه ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، فسطا به المسلم ضربًا وقال: هذا جواب مسألتك. عند ذلك قال النصراني: صدق قومنا إذ يقولون: إنما قام الإسلام بالسيف ولم يقم بالكتاب. ثم تفرقا، هذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فعمل العلامة ابن القيم رحمه الله عمله في الحكم بينهما فقال: لقد شمر المجيب عن ساعد العزم، ونهض على ساق الجد والحزم، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف وإخلاد إلى الضعف، ومجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة عليهم وإزاحة للعذر، ﴿لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖ [الأنفال: 42].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه هداية الحيارى ص22: إن أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورغبة واختيارًا لا إكراهًا ولا اضطرارًا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدًا ﷺ رسولاً إلى أهل الأرض وهم خمسة أصناف طبقوا الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها. فأما اليهود فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أممًا وسلبهم الملك والعز. وأما النصارى فكانوا أطبقوا الأرض فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والجزيرة وأرض نجران وغيرها من البلاد. وأما المجوس فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها، وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم. وأما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها.

وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يُعرف فيهم البتة. وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١٧ [الحج: 17].

فلما بعث الله رسوله استجاب له ولخلفائه من بعده أكثر أهل هذه الأديان طوعًا واختيارًا ولم يكره أحدًا على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه سبحانه حيث يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]. وهذا نفي في معنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحدًا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام، والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول كل من يُجوّز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.

وكل من تأمل سيرة النبي ﷺ تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه لم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته ولم ينقض عهده، بل أمره الله أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡ [التوبة: 7]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنّ على بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم.

وكذلك لما عاهد قريشًا عشر سنين لم يبدأهم بالقتال حتى بدؤوا بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم وكانوا يغزونه قبل ذلك، كما قصدوا يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر.

والمقصود أنه ﷺ لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقًّا، فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية ثم دخلوا في دين الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، فلم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف، بل أسلموا في حال ضعف المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفقتهم بالمال والبدن، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته ويخرج عن الدنيا رغبة في الإسلام لا لرئاسة ولا لمال، بل ينخلع من الرئاسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه.

وهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله، فأطبقوا على الإسلام ولم يتخلف منهم إلا النادر وصارت بلادهم بلاد إسلام وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف حيث دخلوا في دين الله أفواجًا، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار، وقد تبين أن الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم على الكفر أقل القليل. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.

إنه بمقتضى التأمل لما سبق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم يتبين بطريق الوضوح أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين لمن أراد كبته وعدم نشره وفتنة من آمن به، وكف أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن هذا هو الصحيح بمقتضى آيات القتال، كما أنه قول شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم كما سبق بيانه، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قول الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة.

فقول بعض العلماء: إن الجهاد المشروع هو قتال الكفار حتى يسلموا، قول ضعيف بمقتضى الدليل والبرهان.

وقد صار هذا القول من أكبر مطاعن النصارى على الدين وعلى المسلمين. وقد استغله جماعة القسيسين والمبشرين بحيث يلقنونه الطلاب وينشرونه لدى العامة قائلين: إن الإسلام دين حرب وإكراه، وإنه إنما انتشر بالسيف بحيث يوقفون الرجل ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه. يريدون بهذا تنفير الناس عن الدين واحتقاب العداوة للمؤمنين.

وكنا في حالة ابتدائنا لطلب العلم نعتقد هذا الاعتقاد حتى توسعنا في العلم والمعرفة بتفسير القرآن وحقيقة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته ومعاملاته للكفار المحاربين منهم والمسالمين.

فعند ذلك تبدل رأينا وتحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع لدفع العدوان عن الدين وكف أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين.

إن الكاتب - رحمه الله - أشار في كتابه بأنه نظر في عشرين بحثًا من عشرين كتابًا فلم يجد فيها ما يشفيه، وعرف من غضونها أن الدين فقد ما يجب أن لا يفقده. فلو نظر في كتابنا الجهاد المشروع في الإسلام بفكر حاضر وقلب واع لوجد فيه ما يشفيه.

إن من شرط الانتفاع بالبحوث النافعة كونه يتلقاها بصدر رحب وعدم نفرة وكراهية لها، أما إذا نظر إليها بكراهية ونفرة فإنه لا يكاد يراها ولا يسمعها، كما قال سبحانه: ﴿مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ ٢٠ [هود: 20]، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء لم يكد يراه ولا يسمعه وتشتد نفرته منه.

وإن من طبيعة أكثر البشر كون أحدهم إذا جهل شيئا عابه، وبادر بإنكاره، وذلك لا يغنيه من الحق شيئا فكم من لائم ملوم.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
والله سبحانه قد ضمن للحق البقاء، ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ [الرعد: 17].

وأهلاً وسهلاً بمن يرد الباطل في وجه قائله، فإن الباطل لا حرمة له ولا كرامة، فمتى اتّضح الباطل الذي لا محمل له من الحق ولا خلاف في بطلانه فإن رده واجب.

أما المسألة الخلافية كهذه وأمثالها مما يجعل بعض الناس رأيه ميزانًا لها يزن به أقوال الناس، ثم يتحامل بطريق التهالك وعدم التمالك على من خالف رأيه فيها ويحكم ببطلان قوله وعمله واعتقاده، فلا شك أن هذا حكم عائل وليس بعادل، وطريقة سقيمة وليست بسليمة، ولعل المخالفين له أسعد بالصواب منه.

* * *