متقدم

فهرس الكتاب

 

تحقيق معنى الجهاد بالدفاع

إن الجهاد بالدفاع ليس ببدع من القول وزور، وليس بغريب مهجور، وإنما هو أمر مشهور بالكتاب والسنة واللغة العربية.

والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٥١ [البقرة: 251]، وقوله: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ [الحج: 38]، وقوله: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ [المؤمنون: 96].

والجهاد بالدفاع هو ضد الهجوم، وحقيقته صد العدوان لكون الجهاد بالهجوم هو البدء بالعدوان بدون أن يكون له سبب من المهجوم عليهم، فإن سبق منهم عدوان فإنه المقاضاة بالمثل، وفيه أنزل الله: ﴿وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ [الشورى: 40].

فهذا وإن لم يكن له سبق ذكر بهذا اللفظ من العلماء المتقدمين لكنه معروف عندهم كمقابلة من الهجوم الذي هو المبادأة وقد قالوا: الشر بالشر والبادئ أظلم.

وإن العلماء المتأخرين الذين بحثوا عن حقيقة غزوات النبي ﷺ فأثاروا مسألة جهاده وسببها وحققوا بأن غزواته كلها دفاع عن الدين وكف أذى المعتدين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى كثر في موضوعها الجدل بين العلماء مع العلماء وبين الأساتذة مع الطلاب، وبين أفراد المسلمين مع أهل الكتاب.

وقد اعتبر النصارى غزوات الرسول هجومًا على المخالفين له في الدين بدون أن يكون لها سبب من العدوان، وقد جعلوها لهم عقيدة في التنفير عن دين الإسلام في ضمن ما يفعلونه من التبشير بدينهم، فكانوا يلقنون الطلاب وكافة العامة بأن الإسلام دين إكراه وحرب، يكرهون الناس على الخروج عن عقائدهم، يوقفون الشخص ويرفعون السيف فوق رأسه ويقولون: إما أن تسلم وإلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه، وهذا هو نفس اعتقاد الشيخ صالح في قوله ونقله، وهو كذب مفترى على الإسلام وأهله، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله تعالى يقول: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99]، وهي آيات محكمات لا نسخ فيها في قول الجمهور لكون الإسلام هداية اختيارية.

وقد قال بعض العلماء من المتأخرين: إن دعوى القتال للإكراه على الدين إنما دخلت على المسلمين عن طريق النصارى حيث كانوا يجادلون بها دائمًا ويشنعون بها على الإسلام والمسلمين لقصد التنفير عن الدين واحتقاب العداوة لأهله، ويجعلونها في مقدمة تبشيرهم إلى دينهم وينشرونها في كتبهم وفي مدارسهم، فهي أكبر مطاعن النصارى على المسلمين وعلى الدين، فسرى هذا الاعتقاد إلى بعض العلماء وأكثر العامة لظنهم أنه صحيح واقع وهو باطل بلا شك، ومن طبيعة البشر كراهية اسم الإكراه والإجبار والنفرة منه مهما كانت عاقبته، وإننا متى قلنا بهذا القول قد اشتركنا مع القسيسين والمبشرين في التنفير عن الدين، ومتى تخاطب النصارى مع رجال من أفراد المسلمين غير العارفين بحقيقة الأمر ثم قالوا لهم: إن الرسول يقاتل الناس حتى يسلموا، فإنهم بذلك يزدادون فتنة بالمؤمنين، ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا [الممتحنة: 5].

وبما أن الحاجات هي أم الاختراعات ولكل حادث حديث، لهذا تصدى كثير من العلماء المتأخرين إلى بيان هذه المسألة، وأن حقيقة الجهاد الشرعي هي الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين عن المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته، أو يلقي الفتنة بين أهله بتعذيب من أسلم أو تغريبه كما كانت قريش تفعل ذلك، وإثبات الأمر اليقين في ذلك، وإزالة الشك والإشكال والكذب فيه، مما عسى أن لا تجده مفصلاً في غير هذا الكتاب، وقد رأينا غلط الشيخ في فهم الجهاد بالدفاع، حيث عبر عنه أسوأ تعبير فجعله كنطاح البهائم قائلاً: إننا إذا قلنا بالدفاع فما الفارق بين الإنسان وبين بهائم الحيوان الذي همه أن يدافع عن نفسه لا غير. انتهى. ففسره بهذا لعدم فقهه بشمول حكمه.

وإن هذه المسألة قد يشوبها شيء من الخفاء والغموض في بادئ الرأي لكنها بتصحيح الباحثين وتمحيص الكاتبين من أهل العلم ترتفع عن مجال الإشكال والغموض إلى حيز التجلي والظهور، فتلتحق بعلم اليقين والبصيرة في الدين.

وإن الخلاف في هذه المسألة يدور بين أمرين: أحدهما أن سبب الجهاد المشروع هو الدفاع عن الدين وعن حوزة المسلمين وحدودهم وحقوقهم وجماعتهم وأفرادهم حتى ولو في غير بلادهم؛ كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم لاعتبار أن المسلمين متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وكذلك الدفاع عن الدين يمنع الطعن فيه أو فتنة من أسلم ليرتد عنه أو منع نشره في البلد بين الناس أو في سبيل المستضعفين والمضطهدين في بلادهم من المسلمين، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥ [النساء: 75]. فالجهاد في سبيل ذلك هو جهاد بالدفاع؛ أي قتال من يقاتلنا أو يمنع نشر ديننا أو يلقي الفتنة بيننا، وهذا هو حقيقة جهاد رسول الله وخلفائه وأصحابه لقوله سبحانه: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 190-192]؛ أي إن انتهوا عن قتالكم فانتهوا عن قتالهم، وقال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]؛ أي إن انتهوا عن فتنتكم فانتهوا عن قتالهم، ولم يقل سبحانه: وقاتلوهم حتى يسلموا، بل قال: ﴿حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ، فكل هذه الآيات نزلت في المحاربين الذين يقاتلون المسلمين ويفتننونهم في دينهم.

الأمر الثاني قول من يقول: إن الجهاد سببه الكفر فيجب قتال الكفار حتى يسلموا وهذا هو اعتقاد الكاتب، وقد بنى كتابه على تصحيحه واعتقاد العمل بموجبه، كما أنه اعتقاد بعض الفقهاء المتقدمين وأكثر العامة.

وقد استغل هذا القول القسيسون والمبشرون من النصارى وجعلوه عمدة لهم في دعوتهم، واستغلوه في التنفير من الدين واحتقاب العداوة للمسلمين، فكل من قال بهذا القول أو دعا إليه فقد شارك القسيسين في التنفير من الدين.

فلو ظفر النصارى بكتاب الجهاد بين الدفاع والطلب للشيخ صالح لأحلوه محل التقديس والتكريم، ونصبوه في كنائسهم ومدارسهم وعمموا تعليمه لجميع طلابهم وعامتهم؛ لكونه غاية بغيتهم، بحيث إنه يصدق مفترياتهم في إكراه الناس على الدين.

ثم قال الكاتب: (إنني أعجب من كُتاب الفقه الإسلامي الذين قالوا بالدفاع في الجهاد جريًا وراء التقليد بالأعداء الممقوتين، وهم - والله أعلم- يدركون خطأ هذا الرأي البعيد عن الصواب وأدلة الأحكام).

وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن تحقيق معنى الجهاد بالدفاع! فلأجل جهله بحكمته وقع في نفس ما عاب به من الجري وراء الكفار الممقوتين، فكان كما قيل: رمتني بدائها وانسلت. يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓ‍َٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓ‍ٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢ [النساء: 112]. وإن النصارى الآن ينفرون ويكرهون من يقول: إن غزوات الرسول كلها دفاع لكف العدوان عنه وعن الدين الذي جاء به لعلمهم بأنه معذور في دفعه ودفاعه، لكنهم يفرحون بمن يقول: إن غزوات الرسول كلها هجوم يقع منه بطريق الابتداء بدون سبق اعتداء عليه من أحد، فهذا هو غاية ما يبغون، لكن الكاتب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

وإن أكبر شيء حمل الشيخ على التهالك وعدم التمالك فيمن قال بالدفاع هو أنه لم يفقه معنى الدفاع على الحقيقة، حيث حصره في أضيق التعبير، وفسره بأسوأ التفسير، فحمله على القعود والخمول والعجز وعدم الحركة والاستعداد إلى حين هجوم العدو فيقومون بالدفع له: وشبههم بالحيوان الذي يدافع عن نفسه!

ثم قال الكاتب: (لقد قلت هذا بعد أن رأيت عشرين بحثًا كلها تبحث عن مسألة الجهاد بحثًا اختلف الباحثون فيه، فالذين قالوا بالدفاع من المتأخرين من الكتاب والمؤرخين وكتاب السيرة كلهم ليسوا بشيء، كعباس العقاد وعزام وشيت خطاب وعبد الحميد جودة السحار وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والشرقاوي والحكيم، فكلهم ليسوا بشيء).

ثم ألحق بهم في الذم غيرهم قائلاً: والظن بغيرهم من علماء الفقه والحديث من أمثال يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام، ومحمد ناصر الألباني في كتابه حجاب المرأة المسلمة، والظن بهم العودة إلى الحق واتباع سبيل المؤمنين. انتهى.

فالجواب أن نقول: حنانيك قد أفتيت فاستبق بعضنا فلسنا بالحديد ولا الجبال. ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا يرتفع عن مجال الشك والإشكال بأن الجهاد المشروع في الإسلام هو الدفاع عن الدين ودفع أذى المعتدين على المؤمنين، وأن الإسلام يسالم من يسالمه ولا يقاتل إلا من يقاتله أو يمنع نشر دعوته أو يلقي الفتنة بين أهله، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين الذي تدل عليه نصوص القرآن المبين وسيرة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية: إن من لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، أي فلا يُقاتَل، وما فهمه الكاتب بما قاله في صفة الدفاع فإنه ليس من خُلق أهل الدين، وقد قيل: ما آفة الأخبار إلا رواتها. وقالوا: ويل للشعر من رواة السوء.

وما يشعرني أن لهؤلاء الجماعة الذين مقتهم وعدّهم ليسوا بشيء أنهم أسعد بالحق والصواب منه، وأكبر ما ينقم عليهم فيه هو مخالفتهم لرأيه في مثل هذه المسألة؛ لكونه جعل رأيه بمثابة الميزان الذي يزن به أقوال الناس.
وكلٌّ يَدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكَ
ونحن نسوق اعتقادنا في صفة الجهاد بالدفاع:

إن الله سبحانه أمر نبيه محمدًا ﷺ بإبلاغ هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، قال سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19].

وذكر العلماء أن من شرط صحة الجهاد بالقتال هو أن تتقدمه الدعوة إلى الله لفتح القلوب بالإيمان قبل فتح البلدان، فمتى أقبل دعاة الإسلام على بلد ليدعو أهله إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، فإن فتح لهم الباب وسهل لهم الجناب وسمح لهم بالدخول ونشر دين الله والدعوة إليه والاتصال بمن يرغبون إسلامه وتعليمه، فهذا غاية ما يبتغون، وبذلك فليفرح المؤمنون، فلا قتل ولا قتال ولا إكراه في الدين، والكل آمنون على أهلهم وأموالهم؛ لكون الدين هداية اختيارية لا إكراه فيه ولا إجبار، أما إذا خرج أهل البلد بقواتهم وسلاحهم فنصبوا المدافع ووجهوا أفواه البنادق وسلوا السيوف ومنعوا المسلمين ودعاتهم عن دخول البلد لنشر دين الله، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بمنعهم دخول الإسلام في بلدهم الذي فيه سعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم، لهذا يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون، وهذا القتال يعتبر دفاعًا لشرهم حتى تزول الفتنة والاضطهاد عن الدين، وقتالهم إنما هو بسبب منعهم لنشر الدين لا لسبب إكراههم على الدين، يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99]، وقال: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]، وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢ [الغاشية: 21-22]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ [الشورى: 48]. وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ١٠٨ [يونس: 108]، وقال: ﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٩٢ [النمل: 92]، وقال: ﴿فَإِنۡ أَعۡرَضُواْ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظًاۖ إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ [الشورى: 48].

وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها، فمتى دخل الدعاة أو الفاتحون في البلد بهذه الصفة ونشروا دين الله بدون مانع فقد صارت كلمة الله هي العليا، ودينه الظاهر، والهداية من الله.

وقد فتح الصحابة رضي الله عنهم كثيرًا من البلدان بالقرآن بهذه الصفة وهنا نفس ما فعله رسول الله في فتح مكة، فإن قريشًا لما نقضوا العهد الذي أبرمه رسول الله معهم في صلح الحديبية بهجومهم على خزاعة وقتلهم لهم على حين غفلة منهم وكانت خزاعة قد دخلت في عقد رسول الله وعهده، فانتقض بذلك عهد قريش مع رسول الله، فعزم على غزوهم وقال: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[47] فسار بالصحابة نحوهم عام ثمانية من الهجرة وأعطى راية الأنصار سعد بن عبادة ولما سمعه يرتجز بتمنيه للقتال ويقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الكعبة. أخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس، وقال للصحابة: «إنه سيلقاكم أوباش قريش فإياكم أن تحصدوهم»[48] كما سيأتي الكلام موضحًا في فتح مكة حيث مَنّ رسول الله على جميع أهلها، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٢٤ [الفتح: 24].

والمقصود أن السيف لم يصل إلى كافة الأمم التي اعتنقت الإسلام، وإنما وصل إليها هداية القرآن حيث خرج الصحابة من بلادهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والجهالة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة وعلم وعرفان، وقد أنجز الله لهم ما وعدهم في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55] وصدق الله وعده.

* * *

[47] سيرة ابن هشام 2/397. [48] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.