دعوة النصارى وسائر الأمم إلى دين الإسلام[18]
الحمد الله، والصلاة والسلام على سائر أنبيائه، ومن آمن بهم، واتبع هديهم، ولم يفرق بين أحد منهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله.
أيها المسلمون وأيها المستمعون، إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي دين الإسلام إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
وإن الدين هو هذا السمح سهل الاكتناه والعمل ليس بشاق ولا حرج، عموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام مرة واحدة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.
لكون الإسلام ليس هو محض التسمي باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون العمل.
إن دين الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله لجميع الخلق فقال سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]، وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آلعمران: 85]، وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ﴾ [الأنعام: 125]، فيفرح بذكره ويندفع إلى القيام بفروضه ونوافله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ [الزمر: 22].
الإسلام يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، يأمر بالمحافظة على الفرائض والفضائل، وينهي عن منكرات الأخلاق والرذائل.
الإسلام دين السلام والأمان يحب السلم ويكره الحرب إلا في حالة الاضطرار. وقد سماه الله سلمًا فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]؛ أي في الإسلام.
الإسلام دين العزة والقوة والنظام المطهر للعقول من خرافات البدع والشرك والضلال والأوهام.
الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.
الإسلام يحترم الدماء والأموال ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[19] ويقول: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[20]؛ أي بموجب الرضاء التام. وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ [البقرة: 188].
الإسلام دين السعادة والسيادة من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، يقول تعالى: ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨﴾ [الحج: 18].
الإسلام شريعة الله في أرضه، شرعه لعباده لمصالحهم الدينية والدنيوية، فقد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولولا الإسلام وما فيه من الشرائع والأحكام، وأمور الحلال والحرام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى الحق.
الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمنة، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم.
وإننا في دعوتنا إلى دين الإسلام لسنا ندعو إلى قومية عربية، ولا إلى أحزاب شعبية، ولا إلى مذاهب فقهية، وإنما ندعو إلى دين الحق، دين الله الذي ارتضاه لجميع الخلق، دين عيسى وموسى وسائر الأنبياء وخاتمهم محمد ﷺ، يقول الله سبحانه: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣﴾ [الشورى: 13].
فأمر الله سبحانه بإقامة الدين والاجتماع على كلمته ونهى عن التفرق فيه بأن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفروا ببعض، أو يؤمنوا ببعض الكتب ويكفروا ببعضها، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً.
وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يقولوا: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
إنه من يكذب نبيًّا من الأنبياء فإنه يعتبر مكذبًا لسائر الأنبياء وكافرًا بالله عز وجل، فالذين يكذبون بنبوة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بمعجزاته التي أثبتها القرآن فإنهم يعتبرون مكذبين لسائر الأنبياء وكافرين بالله عز وجل، ومثلهم كالذين يكذبون بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام أو يكذبون بالقرآن النازل عليه من الله، أو يزعمون أنه شيء فاض على نفس محمد بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه، فإنهم يعتبرون بهذا مكذبين بنبوة عيسى ابن مريم ونبوة موسى وسائر الأنبياء؛ لأن من كذب نبيًّا واحدًا كذب سائر الأنبياء؛ ولأن التكذيب بمحمد أو التكذيب بالقرآن النازل عليه يستلزم التكذيب بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والتكذيب بمعجزاته التي أثبتها القرآن الحكيم. وإنني أعجب أشد العجب من عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم والذين برعوا في الذكاء والفطنة وعرفوا اللغة العربية، وقد كثر في هذه الأزمنة اختلاطهم بالعرب المسلمين وتعلموا لغة العرب التي يتمكنون بها من معرفة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وشمول نفعه، ومحاسن أحكامه وحكمته، وعموم دعوته، وكونه رسالة رحمة وهداية من الله لجميع خلقه، وأنه المعجزة الخالدة لنبوة محمد ﷺ والمصدق لسائر الأنبياء قبله، ومع هذا كله نراهم يستكبرون ويصرون على التكذيب به وعلى التكذيب بالقرآن النازل عليه تقليدًا منهم للمكذبين من القسيسين والمبشرين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144]، ويقول: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]، نظير قوله: ﴿مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75].
على أن الكثيرين من عقلائهم يعترفون بدين الإسلام ويصدقون بنبوة محمد عيله الصلاة والسلام، وأن ما جاء به هو دين الحق الذي لا سعادة للبشر إلا باعتناقه واعتقاده. وأخذ بعضهم ينادي بعضًا بالرجوع إليه واتباع أحكامه وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين، ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩﴾ [الأنعام: 89].
يا معشر النصارى، لقد تعصبتم وما أنصفتم، وإن موضوع العجب منكم هو القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام كله نضال وجهاد وجدال عن نبوة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، يحقق صدق نبوته وكرامة نشأته وطهارة مولده وبراءة أمه مريم البتول عليها السلام، وأن الله سبحانه خلقه بيد القدرة من أم بلا أب كما خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، وأن الله أيده بالمعجزات الباهرات الدالة على صدق رسالته فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم مع تكليمه الناس في المهد، وقوله: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا ٣٣ ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ ٣٤﴾ [مريم: 30-34].
كل هذه المزايا من الصفات والمعجزات قد أثبتها القرآن وآمن بها المسلمون ومن كذب بها فقد كفر، ولا توجد هذه الصفات وهذه المعجزات بالإنجيل الذي بأيديكم؛ لأن الله ذكر في كتابه المبين أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون.
على أن الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن ليس هو الإنجيل النازل على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وإنما هو مبدل منه وفيه التحريف الكثير والكذب على الله وعلى الأنبياء، كما يعترف العقلاء من علمائهم بذلك، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩﴾ [البقرة: 79].
لأن النصارى يجيزون للقسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، فيجعلون الحرام حلالاً؛ لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فجعلوا المسيح هو الله، وجعلوه ثالث ثلاثة، والقرآن والإنجيل بريئان من ذلك، ﴿لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢﴾ [المائدة: 72]، ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ﴾ [النساء: 171].
وهذا القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام هو معجزة الدهور وآية العصور محفوظ في المصاحف وفي الصدور منذ نزل إلى يوم القيامة، لا يستطيع أحد أن يقحم فيه حرفًا أو يحذف منه حرفًا؛ لأن الله سبحانه تولى حفظه فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحجر: 9].
والقرآن هو أساس دين الإسلام مع سنة محمد عليه الصلاة والسلام، لولا هذا القرآن لكذب الناس بنبوة عيسى ابن مريم وبمعجزاته كما كذب بها اليهود وغيرهم، ورموا أمه بالمفتريات والعظائم، طهرها الله وأعلى قدرها عما يقولون علوًّا كبيرًا، أفيجازى محمد رسول الله الذي جاهد أشد الجهاد في الدفاع والنضال عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأن تقابلوه بتكذيبه والتكذيب بالقرآن النازل عليه والذي هو المعجزة العظمى له؟ وقد تحدى الله جميع الخلق وأنتم منهم على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، يقول الله سبحانه: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨﴾ [الإسراء: 88]؛ أي عونًا.
مع العلم أنه كان لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وليس في بلده ولا زمنه مدارس ولا كتب، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩﴾ [العنكبوت: 48-49]، فعلم منه أن هذا القرآن وحي من الله أوحاه إليه بعد أن بلغ الأربعين من عمره، لا يقال: إن هذا القرآن شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي الله به إليه وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن القول بهذا حقيقة في التكذيب به، ومن قال به كفر وأصلاه الله سقر.
إن الله سبحانه ختم الرسل بنبوة محمد ﷺ، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]، كما ختم الشرائع بشريعته الشاملة الكاملة التي لا يجوز لأحد أن يتعبد بغير شريعته؛ لأن الله سبحانه أرسله إلى كافة الناس بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فكما أنه رسول للمسلمين فإنه رسول للمسيحيين واليهود ولسائر الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فهو رحمة الله المهداة لجميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء: 107]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
وأنزل الله عليه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158] وقد أثنى الله سبحانه على الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ كُلَّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً». فهو رحمة من الله مهداة لجميع الناس، يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾ [سبأ: 28].
فلو كان موسى أو عيسى موجودين بالأرض لما وسعهما إلا اتباع محمد والعمل بشريعته، ولما رأى النبي ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال له: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَلَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»[21].
إن أكبر صارف يصرف علماء النصارى وعامتهم عن اعتناق دين الإسلام واعتقاده وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن النازل عليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، هو تأثرهم بتنفير القسيسين والمبشرين عن الإسلام، وكثرة كذبهم وافترائهم على رسول الله عليه الصلاة والسلام، بقولهم بأنه رجل عاقل، وأنه عبقري وأن هذا القرآن هو شيء فاض على نفسه بدون أن يوحي به الله إليه أو ينزل به جبريل عليه تعالى الله عن قولهم وإفكهم علوًّا كبيرًا.
فهم يتلقون هذا التكذيب من القسيسين والمبشرين، مما جعلهم يتأثرون به ويتربون في حالة صغرهم على اعتقاده. فهذا التأثر والتأثير قد أشربته قلوبهم، حتى صار لهم طريقة وعقيدة، فهو أكبر صارف يصرفهم عن الإسلام، وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثاني هو أن تكذيب أذكيائهم والمفكرين منهم إنما نشأ عن عدم معرفتهم باللغة العربية التي هي لغة الإسلام، والتي يعرف بها بلاغة القرآن لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين.
فبلاغة القرآن بلغته ومعرفة أحكامه وحكمته، وعموم هدايته ومنفعته وذوق حلاوته، كل هذا إنما يدرك عن طريق لغته، كقوله سبحانه: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤﴾ [فصلت: 3-4].
إن عدم معرفة الأمم للغة العربية، التي هي لغة القرآن أكثف حجاب يحول بينهم وبين اعتناق الإسلام واعتقاده والتصديق بالرسول وبالقرآن النازل عليه.
أما ترجمة القرآن الموجودة بأيدي النصارى الآن -وقد ترجم عدة تراجم- كلها ليست بقرآن وتبعد جدًّا عن بلاغة القرآن، وفيها الشيء الكثير من الخبط والخلط الخارج عن معاني القرآن، فلا تسمى قرآنًا.
وإنني أنصح عقلاء النصارى المستقلة أفكارهم بأن يوجهوا عنايتهم ورغبتهم إلى تعلم اللغة العربية، فإن تعلمها يعد من الأمر الواجب على كل أحد، وخاصة من يرغب في الدخول في الإسلام، وبها يعرف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة والصيام ويتبين له بطريق الوضوح أن دين الإسلام هو الدين القويم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأنه دين سعادة وسيادة وسياسة صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والإتقان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليم دين الإسلام وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء لأنه يهدي للتي هي أقوم.
إن كثيرًا من أذكياء النصارى قد تغيرت أفكارهم بعدما تعلموا اللغة العربية، فظهر لهم من فضل الإسلام وصدق القرآن ما خفي على سلفهم، لهذا أخذوا يدعون قومهم إلى الرجوع إلى الإسلام وإلى العمل بما شرعه من الأحكام؛ لكونهم أصبحوا فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم، وقد كثر الداخلون في الإسلام في هذا الزمان وأخذوا يزدادون في الدخول عامًا بعد عام.
إن تعلم اللغة العربية أصبح ضرورة من ضرورات النصارى الاجتماعية، وفيه لهم مصلحة مفيدة فيما يتعلق بالكسب ووسائل الحياة لكثرة اختلاطهم بالعرب المسلمين في بلادهم وشدة حاجتهم إلى التخاطب معه، كما أن العرب المسلمين لما احتاجوا إلى التعامل معهم فيما يتعلق بالتجارة والصناعة والطب، أخذوا يعلمون أولادهم لغتهم لداعي الضرورة والحاجة إلى ذلك، كما علم النبي ﷺ زيد بن ثابت اللغة العبرانية لحاجته للتخاطب مع اليهود.
إنما انتشر الإسلام في بداية نشأته لانتشار اللغة العربية في البلدان الأجنبية، فعرفوا بها حقيقة أحكام الإسلام وبلاغة القرآن، وأنه دين الحق القويم، الذي نظم حياة الناس أحسن تنظيم، وبذلك دخل الناس في دين الله أفواجًا طائعين مختارين، وسيكثر الداخلون فيه من شتى الأمم ولو بعد حين، والعاقبة للمتقين.
إن النجاشي ملك الحبشة، وأحد ملوك النصارى القدماء، لما كان عارفًا باللغة العربية من أجل مجاورته لبلدان العرب، فقرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فجعلت عيناه تذرفان من البكاء خشوعًا وخشية لله لحسن ما سمعه من كلام الله، فلما فرغ من قراءتها أخذ عودًا فرفعه ثم قال: إنه لم يزد على ما جاء به عيسى ولا مثل هذا العود. فأخذت بطارقته ينخرون استنكارًا واستكبارًا لقوله، فقال: وإن نخرتم وإن نخرتم، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي من رامكم بسوء غرم. وأنزل الله في فضله وتصديقه قوله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡحَقِّ وَنَطۡمَعُ أَن يُدۡخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٤﴾ [المائدة: 84] قرآنًا يتلوه المسلمون في صلاتهم، وخارج الصلاة، يشيد بفضل النجاشي وسبقه إلى الإسلام، وإيمانه بالقرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإن هذا التأثر والتأثير من النجاشي بسماع القرآن قد حمله على الدخول في الإسلام، حتى صلى عليه النبي ﷺ وأصحابه بعد موته.
إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوا الإسلام بأنه دين تكاليف شاقة وأغلال، وبأنه دين حرب وقتال، وأنه إنما انتشر بالسيف والإكراه، وأن أهله يعرضون الشخص على السيف ويقولون له: إما أن تسلم وإلا قتلناك، ونحو ذلك من الأقوال البعيدة عن مواقع الصدق في المقال، وقصدوا بها صد الناس عن الدين، فهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولا عجب فهم قد تحاملوا عليه بالطعن فيه لصد الناس عنه وقد قيل:
صديقك لا يُثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدوَّ يقولُ
والحق أن الإسلام إنما انتشر بالقرآن وأنه فتح من البلدان أكثر مما فتح بالسيف والسنان، وأن السيف بمثابة الناصر له في كف الأذى عنه والعدوان، وفي محكم القرآن ما يدل على منع الإكراه في الدين يقول الله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، ويقول: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩﴾ [يونس: 99]، ويقول: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١﴾ [الغاشية: 21]؛ أي لست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد سن رسول الله ﷺ طريقة الفتح للبلدان بفتحه لمكة عنوة، ولما فتحها قال لأهلها: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[22] وسموا في ذلك اليوم الطلقاء، ولم يوقف واحدًا منهم لإلزامه بالدخول في الإسلام بل أبقاهم على حالهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم، لكون القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله وإظهار دينه وقد حصل ذلك.
والإسلام هداية اختيارية، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾ [القصص: 56].
* * *
[18] هذه كلمة ألقاها المؤلف في المركز الإسلامي في لندن حين صلى بالناس صلاة عيد الأضحى في سفره للعلاج سنة 1394هـ وقد نقلتها إذاعة لندن. [19] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [20] أخرجه الإمام أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [21] أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية. [22] سيرة ابن هشام 2/412.