متقدم

فهرس الكتاب

 

شهادة العلماء والمؤرخين من غير المسلمين لفتوح الصحابة والتابعين

إن العلماء المنصفين والمؤرخين الصادعين بالصدق بدون تبديل ولا ميل عن سواء السبيل يشهدون للإسلام بأنه ما عُرِفَ فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم، ويدينون بدينهم، ويتعلمون لغتهم، إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.

فهذا هو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور مشهود به يعرفه ويعترف به كل من عرف الإسلام وأهله، وقد قال عظيم من عظماء النصارى هو نابليون: إن العرب المسلمين قد فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن لا غير. وقال غوستاف لوبون وهو من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران والتاريخ من الإفرنج: إنه ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب المسلمين في فتوحاتهم.

وقال آخر هو ولز الإنجليزي ص303 من كتابه مختصر التاريخ العام: إذا كان القارئ يتخيل أن موجة الإسلام قد غمرت بهذا الفيض الذي فاضته بعض مدنيات شريفة فارسية أو رومانية أو يونانية، فيجب أن يرجع عن خياله هذا حالاً، فإن الإسلام قد ساد لأنه أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت به الأعصر، وإن الإسلام قد ساد لأنه وجد أممًا استولى عليها الخمول وكان فاشيًا بها الظلم والنهب والعسف وكانت بدون تهذيب ولا ترتيب، فلما جاء الإسلام لم يجد إلا حكومات مستبدة ومستأثرة منقطعة الروابط بينها وبين رعاياها، فأدخل الإسلام في أعمال الخلق أوسع فكرة سياسية عرفها البشر، وقد مد إلى البشرية يد المعونة. ولم يبدأ الإسلام بالانحطاط إلا عندما بدأت البشرية تشك في صدق القائمين به.

وقال لوثروب ستودارد الأمريكي في مقدمة كتابه حاضر العالم الإسلامي:

كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دوى في تاريخ الإنسان. ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلادًا منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض ممزقًا ممالك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادمًا أديانًا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرًا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيًا عالمًا حديثًا متراص الأركان هو عالم الإسلام.

كلما زدنا استقصاء باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليمه زادنا ذلك العجب العجاب بهرًا فارتددنا عنه بأطراف حاسرة عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرًا بطيئًا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين ثم أخذ في تأييده والذب عنه بما استطاع من القوة والأيدي، وليس الأمر كذلك في الإسلام، إنما الإسلام نشأ في بلاد صحراوية تجوب فيافيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في جهات الأرض مجتازًا أفدح الخطوب وأصعب العقبات دون أن يكون له من الأمم الأخرى عون يذكر ولا أزر مشدود.

وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصرًا مبينًا عجيبًا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين حتى باتت راية الإسلام خفاقة من البرانس حتى هملايا، ومن صحارى أواسط آسية حتى صحارى أواسط إفريقية.

كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق عوامل ساعدت عليه أكبرها أخلاق العرب، وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته، والحالة العامة التي كان عليها المشرق المعاصر في ذلك العهد.

إن العرب وإن كان ماضيهم ما برح منذ عهد متطاول في القدم حتى عصر الرسالة ماضيًا غير مشرق باهر، فقد كانوا أمة استودعت فيها قوة عجيبة تلك القوة الكامنة التي بدأت منذ نشوء الإسلام تظهر جلية إلى عالم الوجود، فقد ظلت بلاد العرب أجيالاً طوالاً من قبل محمد مباءة يشتد فيها تزخار القوى الحيوية.

وكان العرب قد فاقوا آباءهم وأجدادهم إيغالاً في الشرك والوثنية، مضى عليهم وهم على هذه الحال عهد ليس بالقليل حتى استحالت عناصر أمزجتهم من شدة ذلك كله. ولما صاح فيهم نفير الإسلام أن محمدًا رسول الله، وهو عربي من العرب، استطاع محمد أن يبشر بالوحدانية تبشيرًا عاريًا عن زخارف الطقوس والأباطيل، وأن يستثير حق الاستثارة من نفوس العرب الغيرة الدينية، وهي الغيرة الكامنة المتمكنة على الدوام في كل شعب من الشعوب السامية.

وإذ هب العرب لنصرة دعوة محمد بن عبد الله، من بعدما ذهبت من صدورهم الإحن المزمنة، والعداوات الشديدة التي كان من شأنها الذهاب بحولهم وقوتهم. انضم بعضهم إلى بعض كالبنيان المرصوص تحت لواء صاحب الرسالة في رأسه نور للناس وهدى للعالمين، أخذوا يتدفقون تدفق السيل من صحاريهم في شبه الجزيرة ليفتحوا بلاد الإله الأحد الفرد الصمد.

أجل هبّ الإسلام من شبه الجزيرة هبوب العاصف المزعزع، فلاقى في سبيله جوًّا روحانيًّا خاليًا.

في ذلك العهد كانت مملكتا فارس وبيزنطة باديتين للعيان كأنهما اللحاء الجاف عوده لا نمو فيه ولا حياة، وكان الدين في هاتين المملكتين صار دينًا يزرى عليه ويسخر منه، أما فارس فقد كان دين المزدكية القديم قد انحط انحطاطًا كبيرًا حتى أصبح مجوسية باطلة، وصناعة خداعة بين أيدي الموابذة يظلمون به الخلق ويضطهدون بكل قوة، فكره الناس ذلك الباطل كرهًا شديدًا ومقتوه مقتًا عظيمًا.

أما في القسم الشرقي من المملكة الرومانية فقد ألبس الدين فيها لباسًا غير لباسه الأول، فاستحال إلى الأباطيل الشركية، وانتشرت فيه الأوهام والخزعبلات التي كان يقوم بها علماء الدين اليونانيون ذوو العقول السخيفة والآراء الفاسدة فغدت النصرانية عبثًا وسخرية.

وفي الجملة فقد كانت البدع والضلالات قد مزقت المزدكية الفارسية والنصرانية البيزنطية شر ممزق، وبذرت في كل منهما بذور الاضطهادات الهمجية والعداوات الوحشية، فنمت تلك البذور نموًا هائلاً.

هكذا كانت حالة العالم لما غشيه طوفان الإسلام، وعلى هذا الاعتبار ترى أن العاقبة التي رآها العالم بعد ذلك كانت مما لا بد منه، ولا مندوحة عنه، وجميع ما في الأمر أن كتائب المملكة الرومانية الشرقية ومتدرعة فارس كانت من قبل خواضة حرب فتاكة، ولم تقدر الآن على صد حملة الحاملين عليهما من أمة الصحراء، فسقطت أمام الفاتحين العرب سقوط التلاشي والإعياء.

فلهذا لم يدافع المغلوبون عن أوطانهم حمسًا أبطالاً، بل إن هذه الأمم التي كانت حتى الفتح الإسلامي مدقوقة العنق من جانب ملوكها، قبلت الفاتحين مستسلمة، فقام عديد من أرباب البدع يتهللون فرحًا وسرورًا لنجاتهم من نيران المضطهدين لهم الممقوتين.

وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرتها في أيديهم.

فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا، وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي، ذلك الجماع الذي نفخ فيه العرب روحًا جديدة، فنضر وازدهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامية، فاتحد وتماسك بعضه ببعض، فأشرق وعلا علوًّا كبيرًا.

وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقيًّا، وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء ومختزن العلوم يشعان إشعاعًا باهرًا، طول هذه القرون الثلاثة ما انفك الشرق الإسلامي يضيء على الغرب النصراني نورًا، ثم غابت كواكبه وأفلت أنجمه، حتى أدركته لياليه السود وأجياله المظلمة.

إلى أن قال: كان العرب في عصر صاحب الرسالة أمة كريمة الأخلاق سليمة الطباع نيرة السجايا، مقاديم يركبون كل صعب، تحركهم روح الرسالة بغاية غاياتها، وتبعث فيهم عزمًا شديدًا وغيرة متوقدة، كانوا أشداء العصبية الدينية، وعلى شدة هذه العصبية فإنهم لم يكونوا فيها على غير هدى، بل كانوا مستبصرين يستنيرون بنور العقل وهدايته متمسكين تمسكًا شديدًا بمعتقدات دينهم وأركانه وأصوله، وإن دينهم هذا إنما كان دينًا سهل الاكتناه والمأخذ واضحًا جليًّا، كان جوهر تعاليم محمد الوحدانية مع السنة المعلومة، فالاعتقاد كل الاعتقاد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله كما أنزل في القرآن، والقيام بالفرائض المسنونة المعينة كالصلاة والصوم والزكاة والحج.

فالإسلام هو هذا الدين البين الصريح ما كان ليقيد عقل العربي ويلقي عليه سجوفًا فوق سجوف. والعربي كان قد أدرك حالاً ثار فيها جده واشتعلت غيرته، فبات تواقًا إلى اقتباس العلوم واجتناء ثمراتها والتبسط في شئون الحياة وتوفير أحوالها، والتكيف على حديث مقتضياتها، والخروج بها عما ألفه أزمانًا في فيافي الصحراء وكثبانها.

لهذا لما نشر العرب فتوحهم ومدوا سلطانهم على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على التنعم بالنعم المادية واستلذاذ الترف ورخاء العيش فحسب، بل عكفوا جادين على ترقية الفنون والعلوم والآداب وآراء الحضارة القديمة، فنشأ عن جميع هذا الجد والترقيات أن أخرج للناس تهذيب عربي سام، فأضاءت به العقول وازدهرت ازدهارًا كان فخر الحضارة العربية وواسطة قلادتها ودرة تاجها، فسادت الحرية وابتكرت الآراء والأفكار العلمية ووضعت القواعد والأصول واستنبطت الأحكام، بيد أن هذا لم يكن من صنيع العرب وحدهم بل شاركهم فيه كثير ممن كانوا متظللين ظل دولتهم من النصارى واليهود والفرس الذين كانوا في عهد ملوكهم قبل الفتح الإسلامي يذوقون الأمرين، ويسامون خسفًا شديدًا في سبيل آرائهم ومعتقداتهم الدينية التي كانوا يخافون فيها النصرانية والمجوسية والفارسية، على أنه كان لهذا العصر الزاهر حد وقف عنده ثم عرى شمسه كسوف فظلام مطبق. انتهى كلامه في كتابه حاضر العالم الإسلامي.

وأقول ليعتبر العاقل في كلام هذا الناقد الخبير بأحوال العرب في جاهليتهم وإسلامهم تراه يتكلم بخلوص نية وصحيح رواية وروية ونفي للغرض، مع أنه معدود من جملة الأضداد البعداء، والحق ما شهدت به الأعداء، ويؤيد هذه الشهادة العقل كالنقل، فإنه لولا فضائلهم الدينية ورأسها الإيمان بالله وحده، لما أمكنهم أن يثلوا عرش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وقد كانت حكوماتهما أرقى حكومات الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا، فتلاشت أمام المؤمنين بالله واليوم الآخر.

وقد ثل هذين العرشين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر به النبي ﷺ قبل وقوعه، وفي زمان ومكان استبعد السائل إمكانه، ومن المعلوم في العادة أن العرب في الجاهلية لا طاقة لهم بقتال هاتين الأمتين، وإنما قهروهم بعز الإسلام الذي أكثرهم الله به بعد القلة، وأعزهم به بعد الذلة، وأغناهم به بعد العيلة، وأزال به عن قلوبهم الإحن والشحناء، وجمعهم على كلمة البر والتقوى. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبا عبيدة، إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم.

وبالجملة فالإسلام هو الذي أوقد نار العرب وأشاد منارها وخلد فخارها ووسع دارها، وبه صاروا هم السادة المطاعون، والقادة المتبعون، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 41].

فهم بهذه الصفات فتحوا الفتوحات ودانت لهم الأمم طوعًا من جميع الجهات، وبتركها سلب أكثر ملكهم والباقي على وشك الزوال. نسأل الله الهدى ونعوذ به من الضلال.

وأما الحضارة التي هي في عرف أهل هذا العصر استبحار العمران ورفاهيته السكان وانتشار العلم والعرفان، فقد ذكر المؤخرون في هذا الشأن أنه قد حصل للإسلام من ذلك دور خطير ونصيب كبير لا يستطيع مكابر أن يكابر في إنكاره، سواء قلنا في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية، على أن شأن الإسلام وشأوه هو نشر العقائد الصحيحة المزيلة للأوهام والخرافات، وتشريع الأعمال الصالحة الصارفة عن الفواحش والمنكرات، وسن الأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والعهود والمعاملات، فالعلم بهذه الأشياء مقدم على سائر العلوم والفنون والصناعات وسائر أمور الحياة.

وأما سرعة انتشار الإسلام في الأقطار فسببه هو أن القرآن قد فتح الكثير من الأمصار والأقطار بدون أن تصل إليها سيوف المهاجرين والأنصار، وذلك أن هؤلاء المغلوبين بعد أن دخلوا في الإسلام أخذوا يجوبون خلال الديار الغربية البعيدة للتجارة وللسياحة وينشرون فيها الإسلام ومحاسنه ويقرؤون القرآن، فسرعان ما انتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ودخل الناس فيه طائعين مختارين؛ لأنه دين الحق القويم الذي يقبله الذوق السليم والعقل المستقيم، وهو المعجزة العظمى للنبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ بِهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلِيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ».

ذلك بأنها لما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش وتزويق الأبنية وخزن النقود فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين، وترقية سائر العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية، ونصب القضاة لتنفيذ الأحكام الشرعية والحقوق المالية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام، فرقت حضارة الإسلام بهذه الأعمال رقيًّا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.

فاختطوا المدن وأنشؤوا المساجد وأشادوا المكارم والمفاخر، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة.

مكث المسلمون ثلاثة قرون أو أربعة قرون وهم المسيطرون في الأرض لا يضاهيهم مضاهٍ، أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالتهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، هذا كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله.

فضعف المسلمين لم يكن من الدين، بل من أجل جهلهم بالدين، أو من أجل الإعراض عنه، أو من أجل عدم إجراء أحكامه كما ينبغي، فلما ضعف عملهم بالقرآن ونبذوا عزائم الدين، ذهب وحيهم وضعف سلطانهم، وانتقص الأعداء بعض بلدانهم.

وكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسب ما فيه من ولاية الله ونكاية أعدائه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كل من عرف سير الملوك والأمم رأى أن كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادًا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله، كان أعظم نصرة وطاعة وحرمة، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإلى هذا الزمان، وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله، وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء، بما قاموا به من الدين، وليعتبر بسيرة من والى النصارى وباع لهم بلاد المسلمين كيف أذله الله وكبته وسلبه ملكه. انتهى.

* * *