متقدم

فهرس الكتاب

 

انتشار الإسلام في الأقطار

لقد من الله على المؤمنين ببعثه هذا النبي الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، والعرب يومئذٍ مضطهدون مستذلون بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تتحدث الأمم بدولتهم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام، وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

فالإسلام والعمل بالقرآن أنشأ العرب نشأة مستأنفة، خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، ويدعون الناس إلى العمل به فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقسوة إلى اللين والرحمة، ومن البداوة والهمجية إلى العلم والحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعرفان، وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا [النور: 55].

وصدق الله وعده فأعزهم بعد الذلة وكثرهم بعد القلة، فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم ستر عورته وشبع جوعته، يقول الله تعالى: ﴿فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ ٤ [قريش:3-4].

وقد ذكرهم الله بهذه النعمة فقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦ [الأنفال: 26] قال قتادة: كان العرب قبل الإسلام أذل الناس ذلًّا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، يأكلون ولا يؤكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس.

فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر.
وكم بدوي في الفلا خلف نوقه
يبول على الأعقاب أغبر حافيا
تلافاه في وادي الضلالة هاديا
فأصبح نجمًا في الهداية عاليا
وقد بشرهم النبي ﷺ بهذا الفتح قبل وقوعه، وفي حال قلتهم وضعفهم وفقرهم وبعدهم عن وسائل الملك والسلطان، ففي البخاري عن أنس قال: كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان وكانت تحت عبادة بن الصامت، فنعس ثم ضحك فقالت: يا رسول الله، وما يضحكك؟ قال: «أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجِ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ». أو: «مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ». فركبت البحر زمن معاوية غازية فصرعت عن دابتها فماتت رضي الله عنها.

كتب الله القتال على المؤمنين وهو مع كراهيتهم له خير لهم، وخير للبشرية كلهم حيث هدى الله به وبدينهم ودعوتهم أعظم شعوب الأمم، من النصارى والعجم وسائر الأمم، فأسلموا وحسن إسلامهم، حيث فتحوا الكثير من ممالك الشرق والغرب حتى استولوا على بعض بلاد أوربا وفارس، ونظموا فيها دولة عربية مسلمة كانت سعادة للبشر كلهم، وكانت زينة الأرض في العلوم والفنون والحضارة والعمران.

وإنما كانوا يفضلون أعداءهم بصلاح أرواحهم الذي يتبعه إصلاح أعمالهم، وذلك أن المسلم العربي يتولى حكم ولاية أو بلد أو بلدان وهو لا علم عنده بشيء من قوانين الحكومة ولم يمارس أساليب السياسة ولا طرق الإدارة، فيصلح الله به تلك الولاية، فيزيل فسادها ويحفظ أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من أموالها ومظالمها، وإنما يخرج من عمله بثوبه الذي دخل به، فيسعد الله به رعيته؛ لكون النفس إذا صلحت أصلحت كل شيء وإذا فسدت أفسدت كل شيء.
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويسعد الله أقوامًا بأقوام
وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه خراب بلده ويطلب منه مالاً يعمرها به فكتب إليه: شكوت إليَّ خراب بلدك وتطلب مني مالاً لتعمرها به، فإذا جاءك كتابي هذا فحطها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه عمارها، والسلام.

إن طلب العلوم والفنون وحمل شهادة النجاح فيها مع إهمال التربية الصالحة والمصلحة للنفس وللناس لم يحل دون فنون وعوامل الاستعباد، لهذا ترى الرجل المتعلم المتفنن يتولى ولاية فيكون غاية همه ونهاية عمله تأسيس ثروة واسعة لنفسه وعياله، بما يسمونه تأمين مستقبله، مع توسعه في التمتع بالشهوات واللذات وزينة الحياة.

إن أكبر عامل ساعد الصحابة على فتح البلدان وتوسع الناس في الدخول في الإسلام في كل مكان هو تأثر الأمم بسماع القرآن، إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلاتهم المفروضة، وفي تهجدهم وفي سائر أوقاتهم، فسرعان ما دخلت محبته في قلوب الخاص والعام، فرفع أنفس الكثير عن غفلتها وجهالتها وطهرها عن خرافات الوثنية المستعبدة لها.

وكان النبي ﷺ يؤتى بالأسير من المشركين فيأمر بربطه في إحدى سواري المسجد ليسمع القرآن، فلا يلبث بعد سماعه إلا أن تسبق هداية الإسلام والإيمان بالقرآن إلى قلبه، كما في البخاري أن خيل النبي ﷺ جاءت بثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فأمر به رسول الله ﷺ أن يربط في سارية المسجد ليسمع القرآن، فبعد أسره جاءه رسول لله ﷺ فقال: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟». فقال: يا محمد، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. فتركه رسول الله ﷺ، ثم جاءه في اليوم الثاني فقال: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟». فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسل من المال تعط منه ما تشاء. ثم جاءه في اليوم الثالث فقال مثل مقالته فقال رسول الله: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ». فقال: ما كنتم تقولون إذا أراد أن يسلم أحدكم؟ قالوا: يتشهد شهادة الحق. فقال: يا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك وقد أصبح دينك أحب الأديان إليّ، والله ما كان على وجه الأرض بلد أبغض إلي من بلدك وقد أصبحت بلدك أحب البلدان إلي، وقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة. فقال رسول الله ﷺ: «اعْتَمِرْ». فلما دخل مكة قالت له قريش: صبئت يا ثمامة. فقال: ما صبئت ولكني أسلمت، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله. ومثله جبير بن مطعم أنه أتى رسول الله ﷺ في فدى بدر - قال ابن جعفر: في فدى المشركين- وما أسلم يومئذ، فدخلت المسجد ورسول الله ﷺ يصلي المغرب فيقرأ بـ (الطور)، قال: فكأنما صدع عن قلبي حين سمعت القرآن[14]. وكانت سبب إسلامه.

فالقرآن هو معجزة النبي العظمى التي صار بها أكثر الأنبياء أمة وتبعًا، كما في البخاري و مسلم أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلِيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ».

فالصحابة الكرام فتحوا الكثير من البلدان بالقرآن أكثر مما فتحوا بالسيف والسنان؛ لأنه المعجزة الخالدة العامة الباقية، ولا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بإثبات نبوة محمد ﷺ وإثبات القرآن الذي قص علينا خبر الأمم قبلنا، خبر المعجزات التي جاء بها كل نبي تشهد بصدق نبوته، وتكون حجة على الجاحدين والمعاندين له، ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].

* * *

[14] أخرجه أحمد من حديث جبير بن مطعم، وهو في البخاري بغير هذا اللفظ.