متقدم

فهرس الكتاب

 

حكم الجزية في الإسلام

الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون الغالبون على الأمم المغلوبة لقصد إرهابهم وإضعافهم، وتضخم مالية الدولة بما يصنعونه، فضلاً عن الغرامات التي يرهقونهم بها بما يسمونه خسائر الحرب، وإنما هي نزر يسير بمثابة رمز للخضوع والطاعة لحكومة المسلمين، وهي تشبه بالتقريب ورقة التجنس التي يعرف من حملها بأنه من أفراد الدولة الملتزم لنظامها وطاعتها مع بقائه على ديانته، لكون الإسلام يقرهم على دينهم، إذا بذلوا الجزية فتؤخذ من أغنيائهم في آخر الحول، ولا جزية على الصبيان ولا على النساء ولا على الفقراء، وهي مأخوذة من الجزاء؛ أي جزاء حقن الدم، أو جزاء الحماية لهم والدفاع عنهم، أو جزاء مساواتهم بالمسلمين. ويستفيدون بها التزام الحكومة الإسلامية بدخولهم في ذمتها وعهدها بحيث يمنعونهم من كل ما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، ويحمونهم ممن يعتدي عليهم، ويحترمون معابدهم، ولا يكلفونهم التجند للقتال معهم عند حاجة المسلمين إليهم. ويستفيدون بهذه الجزية بأنهم كحالة المسلمين في سائر تصرفهم في أمور دنياهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويبقون محترمين من نالهم بسوء غرم وأثم، وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أخفر معاهدًا في ماله ودمه، وقد أوصى عمر بن الخطاب بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.

حتى إن المسلمين يعولون العجزة منهم ويعيشونهم، وكتب خالد بن الوليد بعد فتح العراق: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًّا فافتقر وجعل أهل دينه يتصدقون عليه، فإنها تطرح جزيته، يعال هو وعياله من بيت مال المسلمين ما دام مقيمًا بدار الهجرة وبدار الإسلام.

وهذا هو الذي جرى عليه العمل من سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين في فتوح الأمصار، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وأعدلهم في تنفيذها.

وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من إطالة وقوفهم وجر أيديهم، فهذا لا أصل له في الشريعة، وإنما هو من توليد بعض الفقهاء أخذًا من مفهوم قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩ [التوبة: 29] ففسروا هذا الصغار بما وصفوه من الذل والاحتقار، وليس كذلك، وإنما معناه حتى يعطوا الجزية عن طاعة وإذعان للإسلام.

وكتب خالد بن الوليد لنسطونا وقومه: إن عاهدتكم على الجزية والمنعة فلكم الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية عليكم وإلا فلا. وهذا دليل على أن الجزية جزاء عن الحماية والمنعة تدوم بدوامها وتزول بزوالها.

وأنه يجوز للإمام إسقاطها في حالة الصلح والمصلحة وعدم القدرة على الحماية.

وقد جرى العمل بذلك من الصحابة فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان والأزدي في فتوح الشام: أن الصحابة لما عجزوا عن حماية أهل حمص حين اضطروا إلى ترك مركزهم لحضورهم وقعة اليرموك بأمر أبي عبيدة بن الجراح؛ ردوا إلى أهل حمص ما كانوا أخذوه منهم من الجزية، فعجب نصارى حمص ويهودهم من رد أموالهم إليهم وأخذوا يدعون لهم ويستغيثون بنصرهم على أعدائهم من الروم.

وقد خصَّ الفقهاء أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس فقط دون عبدة الأوثان، مستدلين بأن الله لما خص أهل الكتاب بأخذ الجزية دل على أنها لا تؤخذ من غيرهم، وقالوا: إن النبي ﷺ لم يأخذها من مشركي العرب، وقال شيخ الإسلام في رسالته قتال الكفار: ولقد تتبعت ما أمكنني في هذه المسألة فما وجدت لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن الخلفاء الراشدين الفرق في أخذ الجزية بين أهل الكتاب وغيرهم. وقال: وقد توفي رسول الله وما بأرض العرب مشرك تؤخذ منه الجزية، غير أن جزيرة العرب خاصة لا يبقى فيها دينان، وقد أمر رسول الله بإخراج اليهود والنصارى منها لأنها عقر دار المسلمين ومأرزهم. انتهى.

يشير في كلامه إلى أن الجزية تؤخذ من المشركين عبدة الأوثان في غير جزيرة العرب، كما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس لا فرق في ذلك. ويدل على ذلك ما روى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا فقال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ-، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تعالى، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّه وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَك وَذِمَّةَ أَصْحَابِك، فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نبيه، وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّه أَمْ لَا».

فقد عرفت من هذا الحديث في بعث رسول الله سراياه إلى المشركين أنه يأمر أمير السرية متى نزل بقوم أن يدعوهم إلى الإسلام فإن هم أبوا الدخول فيه دعوهم إلى التحول إلى المدينة دار المهاجرين ليسمعوا القرآن، فإن هم امتنعوا دعاهم بأن يكونوا كأعراب المسلمين يمضي عليهم حكم الإسلام، فإن امتنعوا ولم يقبلوا هذا كله، ولا شيئًا منه، سألهم الجزية مع بقائهم على دينهم الباطل. وهذا كله دليل على أن القتال لم يشرع للإلزام بالإسلام، وإنما شرع لكف العدوان عن الدين، وعن عباد الله المؤمنين، وأنه يجوز أخذ الجزية من المشركين في غير جزيرة العرب كما قدمنا، وهذه الجزية هي قدر يسير ونزر حقير لا يسمن ولا يغني من جوع[13].

نظم يوسف بن يحيى الصرصري الحنبلي فقال:
وقاتل يهود والنصارى وعصبة الـ
مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد
على الأدون اثني عشـر درهم افرضنْ
وأربعةً من بعد عشـرين زَيّدِ
لأوسطهم حالاً ومن كان موسرًا
ثمانية مع أربعين لتَقْتدِ
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم
وشيخ لهم فَانٍ وأعمى ومقعدِ
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم
ومن وجبت منهم عليه فيهتدِ

* * *

[13] قدر جزية الغني ثمانية وأربعون درهمًا وهي تعادل ما يقدر باثني عشر ريالا فضة سعوديًا أو اثنتي عشرة روبية فضة إنجليزية. والوسط منهم على النصف من ذلك أي ما يقدر بستة ريالات فضة سعودية أو ست روبيات فضة إنجليزية. وعلى الأدون منهم اثنا عشر درهمًا وقدرها ثلاثة ريالات فضة سعودية أو ثلاث روبيات فضة إنجليزية.