متقدم

فهرس الكتاب

 

فتوح البلدان زمن الخلفاء الراشدين

اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين بدؤوا بالحرب لسائر الأمم، وخاصة حروبهم في فتوح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض.

وخفي عليهم سبب بدأ حالة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها.

فهذا وإن ظنه الناس هجومًا، لكنه حقيقة في الدفاع لشرهم، وقتال الدفاع لا يشترط له تقدم الدعوة، ولا أن يكون في كل معركة ولا في كل حركة، إذ العدو يتحين غفلة عدوه لمواثبته والعدوان يقابل بمثله، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثۡقَفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡحَرۡبِ فَشَرِّدۡ بِهِم مَّنۡ خَلۡفَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ ٥٧ [الأنفال: 57]، ويقول: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ [البقرة: 194].

ولما عزم النبي ﷺ على فتح مكة أخفى سفره، وأنزل الله ما أنزل في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب لقريش يخبرهم بعزم رسول الله على غزوهم، فأطلع الله نبيه على ذلك قبل وصول الكتاب إليهم، وكان يقول: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا»[10].

وذكر يحيى بن سلام في تفسيره: أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب لقريش: أما بعد؛ يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام.

إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعته. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19]، إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ٤١ [الحج: 40-41] ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.

أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم، وقتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا، فأرسل رسول الله ﷺ سرية أمر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى بمؤتة من أرض الشام.

ولما كان العدو حربًا لعدوه حيث كان وفي كل مكان، كان لا بد للمسلمين من أن يؤيدوا دعوتهم ويكفوا الاعتداء عن كل من ينتسب إلى دينهم، فيؤيدوا نشر هذه الدعوة بكل ما يستطيعون من قوة من كل ما يزيغ عنها الفتنة، والفتنة أشد من القتل.

وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر وفارس والعراق قد اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين فأخضعوهم لسلطانهم.

وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كما كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله ﷺ على تخلفه عن غزوة تبوك، وكان الصحابة بترقبون هجوم غسان عليهم وهم ملوك الشام لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين وساعدهم على ذلك متنصرة العرب.

ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الشديد، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر وسميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين.

وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.

وكانت غسان هم ملوك عرب الشام، وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه. قال: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر وقد أقبل من حمص إلى إيلياء. قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. فقال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا أو كذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا- يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.

قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له، وقال: من ينتزع مني ملكي؟! وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن، ولم يزل تُعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه وأجابه قيصر وقال: لا تَسرْ ولا تعبر إليه والْهَ عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، فقال رسول الله: «بَادَ مُلْكُهُ»[11]. وفي أثناء هذه المدة أرسل ملك غسان إلى كعب بن مالك يطلبه للحاق به حينما هجره النبي ﷺ ضمن الثلاثة الذين خلفوا.

إنه من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجيرانهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وقد سعيا سعيهما في إضلال العرب وفي فساد دينهم وفي تنكرهم على رسول الله، وعدم إجابتهم له، والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام، فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم، والتعذيب لهم، كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما وخافا أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهما يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره، ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم. فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل العدوان أو الإكراه على الدخول في الدين. إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان غريزة من غرائز البشر، وقد يفضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات، كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة، وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.

إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم وإنما يطلبون إلى الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله دين الحق ودين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع الخلق، يقول الله: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ [الأنعام: 19] فهم ينذرون ويحذرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 15-16].

﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ [المائدة:19].

﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64].

وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى مُنِع المسلمون من ذلك وهُدد الدعاة أو مُنِعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإنهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى عباد الله المؤمنين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم، وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، فيقاتلون دفاعًا لشرهم فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، ولا أشد من فتنة المضلين الذين يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193].

فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم وتشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قُبِل منهم وكانوا مسلمين وإن امتنعوا طُلِب منهم الجزية، وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

فمطالب الإسلام والمسلمين هي من الأمور السمحة السهلة، غير أن الأمم المخالفة قد جاهدوا أشد الجهاد في منع الدعوة وقبول الهداية؛ لعلمهم أن ما يدعون إليه هو الحق الذي يقبله الذوق السليم ويستسلم له العقل الحكيم لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، وأن الناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين.

وهذه هي غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩ [التوبة: 29] إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع في بلدان العالم إنما هو لموافقته للفطرة والمصلحة ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19] ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85].

فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة من خلفهم يبينون للناس الإسلام وأحكامه وفرائضه، وما يترتب عليه من الأجر والفضل في الدنيا وفي الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار، حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا.

ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة، وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، وحتى احترام معابدهم فلا يتعرضون لهدمها، ولا يمنعون أهلها من دخولها، وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وهذا مما تواترت به الأخبار والتاريخ تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك في جملته. والحاصل أن المسلمين إنما شهروا سيوفيهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكف العدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة، وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال، لموافقة أهلها على دخولهم ونشر دعوتهم فيها، وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده.

ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن أخبرونا بالذي تريدون منا وما الغرض من إقدامكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: إننا نريد أن نخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونريد أن نُخرج الناسَ من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، ونريد أن نخرجكم من ضيق الدنيا إلى سعتها.

فهذا صنيع سلف المسلمين الكرام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان والسنة والقرآن والسيف والسنان حتى اتسعت رقعة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
ولا ننكر أن ملوك الطوائف من المسلمين قد شاب فتوحاتهم في آخر السنين لنشر دعوة الإسلام شيء من حب سعة الملك وعظمة السلطان، وحكم العدل وميزان القسط هو ما قدمنا من صفة سيرة رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه في فتوحهم.

ثم إن الحروب بين المسلمين والكفار يكون لها أسباب تثيرها وتهيجها سوى ما ذكرنا مما يدخل تحت الدفاع عن حقوق سائر المسلمين لاعتبار أنهم متكافلون، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

فمتى هَمّ العدو الطامع باغتصاب بلادنا أو شيء من حقوقنا، أو أراد العدو الباغي استذلالنا أو العدوان على استقلالنا بقطع حرية دعوتنا، فإنه يجب عند ذلك أن نتحلى بحلية الشجاعة والقوة والعزة، فنقاتل في سبيل ذلك حتى تكون حقوقنا محفوظة، وكرامتنا مصونة، وهذا من القتال في سبيل الله لقصد إرهاب الأعداء، وإخافتهم من عاقبة التعدي على المسلمين، وعلى بلادهم وأفرادهم، حتى في غير بلادهم؛ لاعتبار أن المسلمين بعضهم أولياء بعض، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله[12].

* * *

[10] سيرة ابن هشام 2/397. [11] ذكره العلامة ابن القيم ص20 من المجلد الثاني من زاد المعاد في فقه غزوة تبوك. [12] من ذلك ما ذكره أهل التاريخ قالوا: أسرت الروم امرأة شريفة هاشمية، وكانت ممتلئة الصدر بالعزة والأنفة والشجاعة. وفي ضحوة يوم من آخر أيام الشتاء كان المعتصم بن هارون الرشيد جالسًا في مقره ومن حوله حشمه وخدمه فجاء حاجبه وقال له: يا أمير المؤمنين، هنا شيخ عربي بالباب هارب من أسر الروم يريد المثول بين يديك. فقال: ائذنوا له. فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين، جئتك من عمورية المجاورة لأنقرة، وكنت أسيرًا فيها، فسمعت امرأة سيدة هاشمية من أسرى زبطرة تنادي رغم ما بينك وبينها من جبال ومفاوز: وامعتصماه، فجئتك هاربًا من أسرهم مقتحمًا صنوف الأخطار لأبلغك صوتها. فلما سمع المعتصم مقالته نهض في الحال مجيبًا: لبيك لبيك، ثم دعا عبد الرحمن بن إسحاق قاضي بغداد وشعبة بن سهل أحد كبار العلماء وثلاثمائة وثمانية وعشرين رجلاً من أهل العدالة وقال لهم: إني ذاهب في سبيل الله لإنقاذ الهاشمية من وراء أعماق بلاد الروم وقد لا أعود إليكم. فأوصاهم بما أوصاهم به، وقد اتفق المنجمون أنه إن خرج المعتصم لفتح عمورية هذا الوقت، فإنها تكون عليه الدائرة، فإنه لا يمكن فتحها إلا وقت نضوج التين والعنب، فخالفهم وخرج لفتحها ففتح الله عليه ما كان مغلقًا، وأصبح كذب المنجمين محققًا، ثم أمر بالنفير، وأصدر أوامره بأن تتوالى الجيوش خلفه، وتكون أعظم جيوش سالت بها الأباطح قبل هذا اليوم، فما زالت الجيوش تتبعه حتى وصلوا إلى أنقرة، فدمرها على رؤوس أهلها ثم انتقل إلى عمورية، فنزل على حصونها وأبراجها وأسوارها، وكانت أمنع أسوار عرفت في ذلك العهد، وما زال يلح عليها بدبابته ورهيب آلاته حتى دخلها في ربيع الأول سنة 223هـ، وكان أول ما طلب الوصول إلى المرأة الهاشمية في سجنها، وفي ذلك يقول أبو تمام قصيدته الرائعة التي مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
أجبته معلنًا بالسيف منصلتً
ولو أجبت بغير السيف لم تجب