قتال مشركي العرب
إن مشركي العرب كانوا حربًا لرسول الله ﷺ وأصحابه لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب رسول الله وأصحابه، يقول الله تعالى: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2]، وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة، وهي داخلة في عهد الرسول وعقده، ثم شاركوهم في التحزب معهم يوم الأحزاب عام الخندق، ثم أرسل النبي ﷺ سبعين من القراء إلى نجد فيهم خبيب يدعون الناس إلى الدين ويعلمونهم أحكام عبادتهم، فتمالؤوا على قتلهم، فقتلوهم كلهم إلا خبيبًا فإنهم باعوه لقريش ليقتلوه في قتيل لهم فقتلوه، فقنت عليهم النبي ﷺ يدعو عليهم شهرًا. فهم الأعداء الألداء لم يبقوا صلحًا مع النبي وأصحابه، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة التوبة وهي قوله: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ﴾ [التوبة: 5] وهم الذين قال النبي ﷺ فيهم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ[6] حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى». رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
فهذا إنما أراد به مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية، وذلك بعد الإذن بقتالهم. وما أذن الله لنبيه وللمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ﷺ وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن بقتالهم إلا للدفاع عن الحق وأذى الخلق، يقول الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، وكان النبيﷺ يقول: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»[7].
يقول بعض من يعترض على هذا ممن يحاول الطعن في الدين: إن الرسول وأصحابه قد أكرهوا مشركي العرب على الإسلام، وإنهم لم يقبلوا منهم إلا الإسلام أو السيف كالمرتدين عن دين الحق إلى الكفر، بينما القرآن يترك إكراه آخرين على الإسلام بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم الباطل كأهل الكتاب.
والجواب عن هذا أن جزيرة العرب هي دار الإسلام ومأرز المسلمين وعقر دارهم فلا ينبغي أن يترك فيها إلا مسلم، وقد أوصى النبي ﷺ بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها إلا دين الإسلام. وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف، وفي غيرهما الخلاف المشهور. قال في فتح الباري: لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة. إذ هذه مساكن العرب من قديم الزمان والعرب فيها هم من أرفع الناس رأسًا وأقواهم بأسًا.
ولما اختلف الناس على الإمام علي رضي الله عنه في حرب الجمل وصفين تمنى أن ينحاز بقومه إلى جزيرة العرب أو الشام وأنشد:
ولو أني أُطعتُ عصمتُ قومي
إلى ركن اليمامة أو شآمِ
ولكني إذا أبرمتُ أمرًا
يخالفه الطَّغام بنو الطغامِ
إن قيام الدين وانتشاره واتساع رقعة الإسلام إنما هو بالدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمر الله نبيه بقوله: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125] لا بالسيف والإكراه كما يعتقده بعض الناس وأكثر العوام، وإنما السيف بمثابة الناصر للإسلام الذي يذب عنه العدوان عندما توقدت بالغيظ والحقد والحسد قلوب أهل الطغيان حتى قلوب الأقربين من قريش الذي عزه عزهم، وشرفه شرفهم كما قيل[8]:
حسد العشيرة للعشيرة قرحة
تَلِدتْ وسائِلُها وجرحٌ أقدمُ
تلكم قريش لم تكن آراؤهـا
تهفو ولا أحلامها تتقَسَّمُ
حتى إذا بُعِثَ النبي محمـد
فيهم غدتْ شحناؤهم تتضرَّمُ
عزَبتْ عقولهمُ وما من معشـرٍ
إلا وهم منهم ألبُّ وأحزَمُ
لما أقام الوحيُ بين ظهورهم
ورأوا رسول الله أحمدَ منهمُ
إن مشركي العرب غارقون في فنون الشرك وعبادة الأوثان من الأحجار والأشجار والقبور وسائر وسائل الافتتان، وما يفسد العقول والأذهان ويفسد أخلاق الصغار والكبار، ويصير العاقل إذا عمل به أخرق، والرشيد سفيهًا؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي انتحلها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بنسبته إلى العدم وعدم الجزاء على العمل، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى الدين، وإلى عباد الله المؤمنين، وأن يعاملهم بضد صفاتهم الجميلة وأفعالهم الحميدة، إذ لا يمكن اتحاد وحدة الجميع على التوحيد مع الاختلاط بهؤلاء، مع العلم أن الأخلاق تتعادل، فلو لم يجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى لكانوا لذلك أهلاً إذ الضرورة تقتضي قطع العضو المتآكل متى خيف سراية ضرره إلى سائر الجسم.
من ذلك أن وفد خولان لما قدموا على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس». وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه عم أنس، فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه، فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟». فقالوا: لقد أسنتنا -يعني أجدبنا- سنة حتى كنا نأكل الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها، قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا ولقد رأينا العشب يواري الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس[9].
وهذا من فنون عملهم الذي يوقع عامتهم في الافتتان به، والله يقول: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
وإنما شرع القتال للدفاع عن الدين وعن أذى المعتدين وهو ما يعبرون عنه بحرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الحق على الأديان كلها، ومنع الفتنة فيه بحيث لا يفتن المسلم في دينه، ولا يجبر على الرجوع عنه إلى الكفر.
كما كان المشركون من قريش والعرب يضطهدون المسلمين بكل ما يقدرون عليه من أنواع الإحراج والتضييق والإيذاء والتعذيب، لأجل ردهم عن دينهم، كما فعلوا مع بلال وصهيب وسمية، من تعذيبهم لهم بالنار، بقصد ردهم عن الإسلام. ولأجل دفع الأذى والاضطهاد والعدوان شرع الله القتال في الإسلام، وجعله مفروضًا، وسماه سنام الإسلام، وأمر بإعداد القوة له لقصد إظهار الحق ونفع الخلق وإرهاب الأعداء بإخافتهم من عاقبة التعدي على دين المسلمين وبلادهم، وأفرادهم أو حدودهم وحقوقهم ومصالحهم، حتى ولو في غير بلادهم -بلاد العرب- فإن التعدي على أحدهم كجميعهم؛ لاعتبار أن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. حتى تكون أمة الإسلام آمنة في عقر دارها، آمنة على أموالها ومصالحها، مطمئنة في حرية دينها.
وإنما اشتبه على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء بما فهموه من بعض الغزوات والسرايا التي يُظن منها بدء المسلمين بها، حيث توهموا بأنها هجوم محض وأن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون. وذهلوا عن بداءة حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين عليهم وتحزبهم مع قريش على حرب الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، كما أنهم نقضوا عهد صلح الحديبية، وهجموا على خزاعة مع أبي سفيان وقومه فقتلوهم وقد دخلت خزاعة في عهد رسول الله وعقده. واستمروا على هذا العداء والمظاهرة في ذلك الوقت، فهم أعداء للرسول في كل حال وفي كل محل إلى أن فتح الله مكة.
وكان العرب من أهل الحجاز ونجد يتربصون بإسلامهم واستسلامهم فتح مكة وظهور النبي على قريش، ويقولون: إن كان محمد نبيًّا فسيظهر على قريش، وإن كان غير نبي فستظهر عليه قريش، فلما فتح الله مكة في العام الثامن واستقر الإسلام بها ومَنّ على أهلها بالعفو، أقبل العرب من كل صوب يظهرون إسلامهم واستسلامهم لرسول الله، وسمي العام التاسع بعام الوفود، وأخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين.
* * *
[6] الألف واللام في كلمة الناس للعهد ويعني بالناس قريشًا نظيره قوله: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾ [آل عمران: 173] والقائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذين جمعوا لقتالهم هم أبو سفيان ومن معه. [7] رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. [8] من شعر أبي حاتم. [9] ذكره في زاد المعاد في وفد خولان.