متقدم

فهرس الكتاب

 

خاتمة الرسالة

أرفع كتابي هذا لعلماء الإسلام وللرؤساء والحكام، عليهم مني السلام. إن فائدة الاستماع الاتباع وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولكونه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وإن العلماء الكرام هم قادة العوام في أحكام الإسلام وأمور الحلال والحرام.

وإننا متى قلنا: إننا متبعون لا مبتدعون، وإننا مسلمون مستسلمون للانقياد لأمر الله واجتناب نهيه والحكم بما شرعه في كتابه وعلى لسان نبيه، والعمل بموجبه، فيجب علينا أن نرد الطلاق البدعي الذي هو من شريعة البشر إلى الطلاق السُّني، فقضاء الله أحق وحكمه ألزم.

إن جميع العوام الخاص منهم والعام قد تربوا على الطلاق البدعي، حتى إنهم لا يعرفون الطلاق السُّني الشرعي.

وزيادة على ذلك فإن العلماء في بعض البلدان قد منعوا بطريق الإلزام عن الحكم بالطلاق الشرعي، ويلزمون الناس بالطلاق البدعي الذي متى طلقها زوجها ثلاثًا بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة وربما كان في طهر جامعها فيه أو في الحيض فيلزمونه بذلك، ويجعلونه طلاقًا بائنًا لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويمنعون عن الحكم بالطلاق الشرعي الذي متى وقع بلفظ الثلاث في طهر لم يمسها فيه وليست بحائضة فإنه يرد إلى طلقة واحدة، عملاً بحكم رسول الله ﷺ في طلاق أبي ركانة حيث طلق زوجته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [400].

إن الطلاق بجملته بغيض عند الله لما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» لكن حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض، والشارع الحكيم قد ضيق مسالك الطلاق لمصلحة استدامة الزواج وخشية التسرع إليه والتوسع فيه، فيجب على العلماء أن يُعلموا كافة العوام الأدب مع الله في الطلاق الشرعي وكونه يجب على من احتاج إليه أن يطلق امرأته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضة، فتبقى في بيته رجعية لكون الرجعة فرضها الله كما فرض الصلاة والصيام، فمتى طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد فإنها ترد إلى طلقة واحدة، فلا يخرجها من بيته لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ [الطلاق: 1] ولهذا يقول ابن عباس: إن الطلاق عند أول كل طهر ولكل مطلقة عدة لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي زمن العدة، ولا مانع ولا حرام من أن يرى وجهها كحالتها السابقة، ويجوز أن تتجمل له رجاء أن يراجعها، فإن بدا له أن يراجعها بعد الطلقة الأولى سواء كانت بالواحدة أو بالثلاث بلفظ واحد أو في طهر واحد، فإنه ينبغي أن يشهد على رجعتها كما يشهد على طلاقها.

فهذا هو الطلاق السُّني الذي شرعه الله لعباده مصلحة ورحمة لهم، وفيه السعة والفرج والمخرج مما يقعون فيه من الحرج، وفيه حسن العاقبة ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1] وهو اليسر الذي أراده الله بعباده في قوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] وهذا الطلاق بصفته يسمى طلاق الرجعة، والرجعية زوجية.

أما الطلاق البدعي فإنه على صفته ما يفعله بعض القضاة حيث يحكمون على الناس متى طلق أحدهم زوجته بالثلاث بلفظ واحد أو بعدد ألفاظ في طهر واحد فإنهم يلزمونه به، ويحكمون أنه طلاق بائن لا تحل لزوجها إلا بعد زوج آخر، سبحانك هذا بهتان عظيم، إن هذا الإلزام بهذا الطلاق المبتوت يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار ما لا يحصى: ففيه إبطال حكم العدة التي شرعت ليتروى الزوج في أثنائها، ويتفكر في أمره، حتى لو بدا له راجعها بسهولة وبدون عقد ولا وَلي، ولم تشرع العدة إلا لهذا. أما العلم ببراءة رَحمها فإنه يعلم من حيضة واحدة، ففي هذا الحكم الجائر المتضمن لبطلان العدة والرجعة أنه حكم بإلزام الناس بالحرج والمشقة، والله يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78] ثم هو حكم بالعسر على الناس، والله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول، لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة، فضلاً عن غيرهم، فيحكمون بخلافها تم يتبيّن لهم وجه الصواب فيها، فيعودون إليه؛ لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه قد يحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم؛ لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وأنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن، والحديث، والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق، وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها، بحيث يخرجها من حيز الخفاء والغموض إلى حيز التجلي والظهور، بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه - والحالة هذه - سيجد سعة لعذرنا، ومندوحة عن عذلنا فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصّص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، ويربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب، مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة حيث تقبلها العقول، ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.

* * *

[400] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس.