آداب عقد النكاح وإثبات الطلاق
إن من الأمر المؤكد أن يوجد مقر يجتمع فيه الناس لعقد الأنكحة وإثبات الطلاق، ويتولى هذا المجلس أناس فقهاء يعرفون أحكام النكاح والطلاق، وإن العلم بالتعلم، وكثرة المزاولات تعطي الملكات أي الحذق في المعرفة.
هذا وإن عقد النكاح أيسر في نفوسنا من إثبات الطلاق، لكون الأنكحة يعرفها كل العوام، وأنها تدور على الإيجاب والقبول، والولي وشاهدي عدل، ورضا الزوجة وإزالة الموانع، كصحة خروجها من عدة من طلقها وعدم الإكراه على زواجها، وهذا كله معروف بلا إشكال.
وإنما الأمر المشتبه على أكثر العلماء وكل العوام هو الطلاق وكيفية آدابه وحلاله وحرامه. والإسلام وإن كان يجعل الطلاق مفوضًا للزوج وحقًّا من حقوقه، لكنه لم يجعله حقًّا مطلقًا يستعمله كيفما شاء، ويوقعه في أي وقت أراد. وإنما وضع له قيودًا إذا راعاها الزوج كان إيقاع الطلاق مباحًا لا إثم فيه، وإذا فقدت أو فقد واحد منها كان إيقاعه محظورًا.
وإن من الواجب على الفقيه أن يعلّم الناس كيفية ما يجب عليهم من الطلاق عند حاجتهم إليه...
أولاً: أن الطلاق بدون سبب يوجبه يعد من الأمر المكروه عند الله وعند رسوله، والله تعالى نهى الأزواج عن التعرض للزوجات إذا استقام أمرهن وصلح حالهن في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ﴾ [النساء: 34] والنبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ»[399]. فلو طلق الرجل زوجته بدون سبب يدعو إلى طلاقها كان آثمًا، ولكن الطلاق الذي أوقعه يكون معتبرًا ومعتدًّا به شرعًا.
ثانيًا: يُشعر الزوج بأنه لا يحل له أن يطلق زوجته في طهر جامعها فيه، كما لا يحل للفقيه وكاتب الوثائق أن يثبت طلاقه بهذه الصفة؛ لكونه أمرًا محرمًا، فيكون شريكًا له في الإثم، فيقول: أخّر الطلاق حتى تحيض ثم تطهر.
ثالثًا: أن تكون الزوجة غير حائض، فإن الطلاق في حالة الحيض محرم لا يحل إثباته ولا الشهادة عليه حتى تزول عنها الحيضة، ثم يستقبل الطلاق في الطهر.
رابعًا: لا يجوز أن يطلقها بالثلاث مجتمعة، سواء كانت بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، كما يجب على الفقيه ألا يثبت طلاق هذا إلا عن طلقة واحدة.
وصفة الإثبات لهذا الطلاق هو أن يقول:
إنه بتاريخ يوم....../....../ من........ عام......
حضر فلان بن فلان وطلب مني سماع طلاقه لزوجته فلانة بنت فلان...... وأنه طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة، وقد أشعرته بحكم الشرع بأن هذا الطلاق يقع عن طلقة واحدة بالكتاب والسنة، كما أشعرته بأن المرأة تبقى زوجة له رجعية كحالتها السابقة، ويجوز أن ينظر إليها بلا محظور وأن ينفق عليها مادامت في العدة، فإن طلقها طلقة ثانية في طهر لم يجامعها فيه فهما طلقتان، ثم يفكر في نفسه فإن رغب في إمساكها فإنه يراجعها، والأفضل أن يشهد على رجعتها، وتكون عنده زوجة له كحالتها السابقة، حتى إذا حاضت من حيضتها الثالثة بانت منه وحرمت عليه.
لكنه لو ندم عليها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره...
وإن هذه الأحكام يجب تعليمها للعوام حتى يتربوا على العلم بأحكام الطلاق الشرعي.
ثم الحكمة من هذا التشريع هو رغبة المشرع الحكيم في تحاشي وقوع الطلاق، وإبقاء الزوجين على حالة الحياة الزوجية ما أمكن؛ لأن الزوج إذا أراد الطلاق ومنعه الشارع من إيقاعه في فترة الحيض وفي حالة الطهر الذي واقع زوجته فيه، وطالبه بالانتظار حتى ينتهي الحيض، ثم يوجد الطهر الذي لم يخالطها فيه، وجد أمامه مدة من الزمن يتروى فيها ويفكر في الأمر العظيم الذي سيقدم عليه، وقد يدعوه ذلك إلى العدول عن الطلاق والإبقاء على الزوجية ويحل الوفاق محل القطيعة والشقاق... وبذلك تصان الحياة الزوجية وتحفظ الأسر من التفكك والانحلال لكراهة الشارع التسرع في الطلاق والتوسع فيه.
ثم إن الطلاق الذي يجوز سماعه وإثباته هو أن يطلق زوجته طلاق السنة أو بالطلقة الواحدة في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا، فيثبت هذا الطلاق رجعيًّا، بمعنى أن يشعر الزوج وكذا الزوجة بتريثهما إلى حين أن تحيض الحيضة الأولى، فإن طلقها ثانيًا جاز ذلك وتعتبر طلقتين، ثم هو مخير بين أن يمسكها بالمعروف وذلك بارتجاعه لها والأفضل أن يشهد على رجعتها فتبقى زوجة له كحالتها السابقة، فإن تركها ولم يراجعها حتى حاضت الحيضة فإنها تطلق منه وتحرم عليه؛ لكنه لو ندم على طلاقها جاز له ذلك بعقد مستأنف من جديد، أما إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، ويكون نكاح رغبة لا نكاح تحليل؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 230] ويكون بالطلقة الثالثة كمن أغلق الباب بينه وبين الاتصال بزوجته.
وقد ذكر الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه: الأحوال الشخصية ص357: إن الطلاق المتعدد بلفظ الثلاث، أو بإشارة مقترنة بالثلاث، أو بثلاث طلقات متتابعات في مجلس واحد، يقع طلقة واحدة، لأن السنة أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولا في الحيض قبله، فإذا خالف السنة وطلق اثنتين أو ثلاثًا بلفظ واحد، فإنه يمضي عليه ما أذن به الشارع وهو وقوع طلقة واحدة ويكون الباقي لغوًا. وأيضًا إن الطلاق كما هو صريح الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ [البقرة: 229] لا يقع إلا في دفعات، فلا يقع مرة واحدة، فإذا أوقعه دفعة واحدة بلفظ الثلاث، أو بالنطق ثلاث مرات، فإنه لا تقع إلا واحدة والعدد لغو، أو ما يجيء بعد ذلك لغو لا يلتفت إليه.
وقد جاء القانون المعمول به في مصر رقم25 لسنة 1929م وعالج هذه الحال باعتبار أن الطلاق المتعدد لا يقع إلا واحدة، وهو مذهب طائفة من السلف وتبعهم بعض الفقهاء، ونصت على ذلك الحكم المادة الثالثة وهي: الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة. انتهى.
كما أن غالب بلدان العالم الإسلامي اليوم تأخذ بهذا، أي تجعل الطلاق المقترن بعدد لا يقع إلا طلقة واحدة.
وإن المقصد من الحكم الشرعي في الطلاق هو حمل المطلق على ألا يسير إلا في الطريق الذي رسمه القرآن الكريم، فلا يطلق دفعة واحدة، والطلاق في المجلس الواحد ولو متتابعًا يعد دفعة واحدة.
* * *
[399] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر.