متقدم

فهرس الكتاب

 

الطلاق بالثلاث بدعة وحرام

ثم قال الكاتب رحمه الله في خاتمة بحثه نقلاً عن ابن العربي المالكي: (وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة - وإن كان حرامًا في قول بعضهم وبدعة في قول الآخرين - فإنه طلاق لازم). انتهى.

والجواب: أن هذا إنطاق من الله سبحانه بهذا الحق في هذا الطلاق الواقع بالثلاث جملة واحدة، وما كنا نتوقع نطقه به بعد أن رأينا شدة تعصبه لمذهبه، فهو يسلك في سبيل رأيه وإعلاء كلمته كل سبيل بفنون من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل، وكله يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء.

والله تعالى يقول: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ [الرعد: 17].

فهذا الكاتب من بداية بحثه إلى نهايته وهو يدور على تصحيح الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة ويشير إلى أنه صحيح لازم.

وإننا لا نعلم في شريعة الإسلام حكمًا من الأحكام يتفق عليه علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام بأنه بدعة وحرام، ثم يتصدى قضاة المسلمين فيه بالصحة والإلزام، سوى هذا الطلاق البدعي الواقع بالثلاث جميعًا، مع ما في الحكم به من الضنك والشدة والحرج والمشقة، بخلاف الطلاق الشرعي فإن فيه الراحة واليسر والسعة، فكانوا في استبدالهم به كما قال سبحانه: ﴿قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ [البقرة: 61].

وكما قيل في المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

ومثله استدلاله بحديث ابن عباس في طلاق أبي ركانة ثلاثًا جميعًا في مجلس واحد، فرده النبي ﷺ فقال: «إِنَّهَا وَاحِدَةٌ، رَاجِعْ امْرَأَتَك» [392]. وهي حجة في موضع النزاع. ويقول في ترديدها: نعم، طلقها ثلاثًا في مجلس... ولم يثبت أن هذا الطلاق بلفظ واحد، يشير بهذا أنه إذا كانت الثلاث بألفاظ ثلاثة كأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنها بزعمه تطلق ثلاثًا، والكاتب - رحمه الله - لم يفقه المسألة حق الفقه، وإن كان هذا قولاً لبعض العلماء. والقول الصحيح أن الطلاق الشرعي يقع بأول طلقة من هذه الثلاث والطلقتان الزائدتان تعتبران لغوًا، لكون الطلاق لا يلحق الطلاق في طهر واحد، كما قالوا: إن الرجعية لا يلحقها الطلاق، وهي بالطلقة الأولى صارت رجعية يترتب لها لوازم الرجعية من النفقة والسكنى في المنزل، ثم إن تركها بعد هذه الطلقة الأولى ولم يراجعها حتى انقضت أقراؤها فإنها تبين منه بينونة صغرى.

ثم إنه كثر استدلاله بحديث محمود بن لبيد وأن رسول الله ﷺ أخبر أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا جميعًا فقام غضبان، وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله من شدة غضب رسول الله عليه [393].

ويقول الكاتب: إن سكوت الرسول عن هذا يدل على صحة طلاقه ولزومه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. ونقول: سبحان الله، فحسبه شدة غضب رسول الله عليه، وقوله: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، مما يدل بطريق الوضوح على تحريم هذا الطلاق الواقع بالثلاث جميعًا وعدم لزومه.

وإنما ذكرنا هذه النصوص لكثرة ما يرددها هذا الكاتب في بحثه، وهي حجة عليه لا له، وقد قال العلامة الصنعاني في سبل السلام بعد استعراضه لهذه الأحاديث التي ذكرناها ما نصه:

واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.

وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد؛ لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث.

وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث؛ فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا للطلاق فكان لغوًا. انتهى.

وقال الطحاوي وقد حكى القولين في كتابه شرح معاني الآثار، قال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثًا معًا. ثم ذكر حديث أبي الصهباء ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً أمر أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة وطلقها على غير تلك الشريطة، أو أمره أن يُطلق في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا؛ فإن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به. ثم ذكر حجج الآخرين القائلين بلزوم الثلاث معًا، وذكر الجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه.

* * *

[392] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عباس. [393] أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد.