في مبتوتة الطلاق
اعلم أن مبتوتة الطلاق عند الفقهاء تطلق على من وقع عليها الطلاق بالثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ متعددة في طهر واحد، فالكلام في سكناها وفي النفقة عليها وجوبًا ومنعًا يتمشى على صفة الطلاق الذي ذكرناه.
فالذين يحكمون بلزوم هذا الطلاق وسقوط ما يترتب عليه من النفقة والسكنى يعتمدون في حكمهم على الحديث الذي رواه مسلم ورواه أحمد عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا قال: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ».
ويسمونها المبتوتة ويحكمون بالثلاث بأنها بينونة كبرى، ويحرمونها على زوجها حتى تنكح زوجًا غيره. وقد وهم الأئمة وأتباعهم في هذا الحديث بلفظ: أنه طلقها ثلاثًا. ولم يبلغهم التفصيل الذي ذكرته فاطمة في جدالها مع مروان أمير المدينة ومع غيره، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومسلم بمعناه أن زوجها أبا حفص كان باليمن مع علي بن أبي طالب، فأرسل لها آخر تطليقة لها، وأمر وكيله بأن يدفع لها شعيرًا، فسخطته فجاءت إلى رسول الله ﷺ فأخبرت الخبر، فقال الرسول ﷺ: «إنه ليس لك عليه نفقة ولا سكنى، انتقلي من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم» وفي رواية النسائي أنه قال: «إنما لا تكون النفقة إلا لمن لزوجها عليها الرجعة، أما من لا رجعة له عليها فلا نفقة لها ولا سكنى».
ولهذا قالت لمروان عند جداله لها: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ [الطلاق: 1] فماذا يحدث بعد الطلقات الثلاث؟ وقد صرح الأئمة بأنه لم يثبت شيء من السُّنة يخالف قول فاطمة، وما وقع في بعض الروايات عن عمر أنه قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» فقد قال الإمام أحمد: لا يصح ذلك عن عمر. وقال الدارقطني: السنة بيد فاطمة قطعًا.
وقال العلامة ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه، أن هذا كذب على عمر وكذب على رسول الله ﷺ وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرطُ الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصريحة الصحيحة بالكذب البحت، فلو يكون هذا عند عمر عن النبي ﷺ لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة. انتهى.
ووقوع الخطأ دخل على العلماء من لفظة: (طلقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى) فإن لفظ: (طلقها ثلاثًا) تحمل على كونها مجتمعة في مجلس واحد وبلفظ واحد، وعلى كونها مفرقة بين ثلاثة أطهار أي زمن العدة. وبين الصيغتين من الفرق كما بين السماء والأرض، فإن الطلاق الواقع على فاطمة بنت قيس هي ثلاث تطليقات مفرقة.
وقد أرسل زوجها إليها آخر الثلاث وهو باليمن، وعرف وكلاؤه بأنه لا حق لها على زوجها أبي حفص، لكونها بائنة منه بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد زوج، والنفقة والسكنى إنما فرضها رسول الله ﷺ على من لزوجها عليها الرجعة.
فغلط الأئمة وأتباعهم من أكثر الفقهاء وكل العامة وأكثر القضاة الذين يجيزون إيقاع الطلاق بلفظ الثلاث، وهو أول طلاق وقع من الزوج، فيحرمونها عليه من لدن وقوع الطلاق، ويحرمون عليه رجعتها. ومن لوازم حكمهم بتحريم الرجعة هو حكم منهم بنسخ الرجعة من دين الإسلام التي فرضها الله بقوله: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ [البقرة:228] إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ وليس في حديث بنت قيس دليل لهم في سقوط الرجعة ولوازمها من النفقة والسكنى، فإن طلاقه وقع مفرقًا، وقد أمضت عدتها في بيته، مما يدل على أن من لوازم صحته أن يطلقها عند كل طهر، لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ والعدة هى الطهر ويجوز أن تبقى معه في البيت، وأن ينظر إلى وجهها، بل يجوز أن تتجمل له رجاء مراجعتها. ولهذا قال سبحانه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ﴾ [الطلاق: 1] لأنها بمثابة المحادة لمصلحة الزوج، فمتى مضت العدة ولم يراجعها، فإن كان طلاقه لها مرة أو مرتين فإنها تبين بينونة صغرى وتنقطع نفقتها وسكناها، لكن لو بدا له بعد بينونتها أن يتزوجها جاز ذلك بعقد جديد مستوف لشروط الصحة.
وعليه يُحمل ما روى البخاري أن معقل بن يسار زوَّج أخته على رجل فطلقها، ثم إنه ندم عليها فخطبها من أخيها، قال له معقل: يا لكع أكرمتك بها وأهنتني بطلاقها، والله لا زوجتكها أبدًا. فعلم الله ما بين الزوج والزوجة فأنزل: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232] فدعا النبي ﷺ معقلاً فتلاها عليه، قال معقل: سمعًا وطاعةً لربي. فدعا الرجل وعقد له على أخته [390].
وهذا الطلاق الواقع من الرجل هو الطلاق الشرعي الذي كانوا يستعملونه زمن النبي ﷺ وزمن نزول القرآن، ومن بركته يجوز للرجل أن يتزوج مطلقته بعقد جديد.
أما لو طلقها بالثلاث مفرقة، فإنها تحرم عليه إلا بعد نكاح زوج غيره في نكاح صحيح لا نكاح تحليل، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ - أي الثالثة - ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 230] ومنه يعلم أن الصحابة قد تربوا على معرفة الطلاق الشرعي والعمل به، فهم يطلقون المرأة عند ابتداء كل طهر، كما فعل أبو حفص في طلاقه لزوجته فاطمة بنت قيس، وكما فعل هذا الرجل لأخت معقل، ومن لوازم هذا الطلاق الشرعي أنها تبقى في بيت الزوج وينفق عليها حتى تخرج من عدتها.
قال الصنعاني في سبل السلام:
واعلم أن ظاهر الأحاديث أنه لا فرق أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، أو يكرر هذا اللفظ ثلاثًا فيقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق.
وفي كتب الفروع أقوال وخلاف في التفرقة بين الألفاظ لم تستند إلى دليل واضح، وعدم استفصال الرسول ﷺ لطلاق أبي ركانة هل أوقع الثلاث في مجلس واحد، لأنه كان الواقع في عهد رسول الله ﷺ عدم إرسال الثلاث، وبالقياس فإنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث، فإنه تقع عليها واحدة، فإذا أعاد اللفظ لم يصادف محلًّا لقبول الطلاق فكان لغوًا. انتهى.
ويدل على صحة رجوعه بالطلاق الواقع بالثلاث ما رواه ابن عباس من حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فندم عليها، فسأل النبي ﷺ فقال: إني طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد. فقال: «قَدْ عَلِمْتُ ذلك، فَرَاجِعْهَا». رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وقال: إن هذا الحديث أصح من حديث البتة؛ لأن حديث البتة رواته مجاهيل.
فهذا حكم رسول الله ﷺ في طلاق المبتوتة وكونه يجوز رجعتها، والرجعية زوجية.
فمتى طلق زوجته واحدة أو ثلاثًا في مجلس واحد، فإنه يحكم فيها بطلقة واحدة، وتبقى عنده رجعية، والرجعية لا يلحقها الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه، لكون المحل والزمن والشرع غير قابل لزيادة على الطلقة الواحدة في الطهر الواحد، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض فسأل النبي ﷺ عن ذلك، ثم قال مرة: «فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ لِيُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطلاق الشرعي هو الرجعي. ويروى عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الطلاق بالثلاث في أول عمره، ثم قال الإمام أحمد: إني تدبرت كتاب الله وسنة رسوله فلم أر فيهما إلا الطلاق الرجعي. لهذا رجع عن الإفتاء بلزوم الثلاث.
وقال ابن جرير في التفسير على قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ وتأويل الآية: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولاً بهن تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان لأنه لا رجعة له بعد أن طلقها الثالثة.
وقال: سنة الطلاق التي سننتها لكم وأبحتها لكم إن أردتم طلاق نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك عليكم إما أن تمسكوهن بمعروف أو تسرحوهن بإحسان.
وعن مجاهد: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحبّ أن يفعل. فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، ثم قال الله تعالى ذكره الثالثة:﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع ثيابها. انتهى
قال الشيخ أبو زهرة رحمه الله في الطلاق الرجعي والبائن في كتابه الأحوال الشخصية ما نصه:
كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية ولا يزيل الحل مادامت العدة قائمة. بل يكون المطلق له كل حقوق الزوج فله أن يراجعها في العدة في أي وقت شاء وأن المرأة حلال له، وحقوق الزوجية ثابتة لكل واحد منهما على صاحبه.
وإذا انتهت العدة في الطلاق الرجعي زالت الزوجية، ولكن يبقى الحل فله أن يعقد عليها في أي وقت شاء.
وفي أثناء العدة لا يمنع التوارث إذا مات أحدهما في العدة، فإذا مات الزوج في أثناء العدة ورثته الزوجة، وإذا ماتت الزوجة ورثها الزوج مادامت العدة كانت قائمة وقت الوفاة. ولا يحل بالطلاق الرجعي مؤجل المهر إذا كان مؤجلاً لأقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة. والطلاق يكون بائنًا في أربع أحوال:
1- إذا كان قبل الدخول؛ لأن الطلاق قبل الدخول يكون لغير عدة لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] وإذا كانت قبل الدخول لا عدة لها فلا يمكن مراجعتها.
2- إذا كان الطلاق على مال - الخلع - لأن الطلاق على مال هو لافتداء نفسها بما تقدمه من مال لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦ﴾ [البقرة: 229] ولا يمكن أن يتحقق افتداء مع ثبوت حق المراجعة في العدة، إذ يهدم هو بمراجعته فيها معنى الافتداء.
3- إذا كان الطلاق هو المكمل للثلاث فإذا طلقها واحدة وراجعها ثم طلقها أخرى وراجعها، ثم طلقها الثالثة، كان الطلاق بائنًا وكانت البينونة كبرى، وذلك لقوله تعالى بعد ذكر الطلقتين: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 230].
فكانت الطلقة الثالثة هي نهاية ما سن له في الطلاق فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل.
4- الطلاق للعيب، والطلاق للسجن، والطلاق للتضرر بسبب الغيبة، والطلاق للضرر بسبب الإيذاء بالقول أو الفعل بما لا يليق بأمثالهما. وهذا الطلاق بائن بصورة الفسخ من قبل القاضي[391].
* * *
[390] أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي واللفظ له من حديث معقل بن يسار. [391] كتاب الأحوال الشخصية: ص 361،362،365،366.