متقدم

فهرس الكتاب

 

دعوة العلماء للعمل بالسنة

فيا معشر علماء المسلمين يجب علينا أن نحاسب أنفسنا وأن نفكر في أعمالنا وأحكامنا، هل نحن فيها على هدى أو في ضلال مبين؟ وهل نحن متّبعون أو مبتدعون؟

إن الحكم بالطلاق الثلاث المجموعة بكونها طلاقًا بائنًا لا تحل المرأة فيه لزوجها إلا بعد زوج آخر، فإن هذا حكم جائر يترتب عليه فنون من المساوئ والسيئات ومن الظلم والظلمات.

فمن مساوئه: أن العلماء سمّوه طلاق البدعة، ونحن - معشر المسلمين - يجب علينا أن نحارب البدعة وأن نردها إلى السنة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

ولحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[383].

ومنها: أن الحكم بلزوم هذا الطلاق البدعي يترتب عليه لوازمه من سقوط النفقة والسكنى، حيث إن القائلين به والمتمسكين بمذهبه، استدلوا على سقوط النفقة والسكنى بحديث فاطمة بنت قيس، حيث بلغهم بلفظ أن أبا حفص طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها رسول اللهﷺ نفقة ولا سكنى عليه، وأمرها أن تخرج من بيته إلى بيت ابن أم مكتوم. وقد غلطوا في فهم حديث فاطمة بنت قيس، فإن طلاق فاطمة وقع مفرقًا حسب الطلاق الشرعي، وعلى صفة ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه في الإجماع السابق.

ولفظ الحديث أنه أرسل لها بآخر تطليقة من الطلقات الثلاث وهو باليمن، وطلب وكيله منها أن تخرج من بيته، وقد قال رسول الله ﷺ - فيما رواه النسائي-: إنه لا يجب للمطلقة نفقة إلا إذا كان لزوجها عليها رجعة، أما إذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى، فأئمة المذاهب أخذوا بقوله في الحديث أنه طلقها ثلاثًا ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى على زوجها، ولم ينظروا إلى تفصيل الحديث وسبب سقوط النفقة، وهو كونها خرجت من عدتها بالثالثة، فلم يبق له عليها رجعة، كما أنه لم يبق لها عليه نفقة ولا سكنى.

فالذين يحكمون بلزوم الثلاث هم يحكمون بسقوط نفقتها زمن عدتها، ويقولون: إن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، والشرع يوجب النفقة لكل مطلقة ما دامت في العدة، كما أنهم يحرمون رجوع الزوج عليها زمن عدتها، وأنها لا تحل له إلا بعد زوج آخر.

ومن مساوئ الطلاق بالثلاث مجموعة: كونهم يحكمون بانقطاع الإرث من كل واحد منهما متى مات وهي في عدتها أو ماتت وهي في العدة، لزعمهم أن المبتوتة لا سكنى لها ولا نفقة ولا ترث زوجها ولا يرثها.

والطلاق الذي شرعه الله من لوازمه وموجباته بقاء المرأة في عدة الزوج حتى تخرج بعد غسلها من الثالثة، أو بعد وضع حملها أو بعد ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة. وهذه العدة والرجعة في خلالها هي فرائض من الله كفريضة الصلاة والصيام لا يجوز لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. يقول الله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228] أي في حالة العدة. لكون الرجعية زوجية، والطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا.

لقد مكثنا زمانًا ونحن نرى كبار علماء المملكة العربية السعودية يفتي بعضهم بجعل الطلاق بالثلاث واحدة، يحكمون بذلك ولا يتأثمون. منهم مشايخ آل عتيق ومنهم الشيخ ابن سالم قاضي بلدان الخرج. وكذا الشيخ عبد الكريم البكري من أهل البكيرية وسكن بعمان وتوفي فيها فكان يفتي به لأهل عمان.

وحدثني الشيخ عبد الله بن قاسم الثاني حاكم قطر سابقًا، وهو ثقة صدوق، قال: حججت أول فريضتي فزرت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشيخ رحمه الله فبحثت معه في الطلاق بالثلاث جميعًا، فقال لي: أنا أفتيت بجعلها عن طلقة واحدة ثلاث مرات مع ثلاثة أشخاص.

وآخر من سمعنا عنه بأنه يفتي بها هو فضيلة العالم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عفا الله عنه، وأن جميع علماء العرب المسلمين في الأمصار كمصر والسودان والمغرب وسورية والكويت، قد عمّم علماؤهم العمل بجعل الطلاق الواقع بالثلاث عن طلقة واحدة، فأنقذوا قومهم من التورط في هذه المشكلة وساروا في طريقهم على وفق السنة المطهرة.

ومن مساوئ الحكم بلزوم الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد: أنها تفتح باب التحليل على مصراعيه، بحيث إن الرجل متى انفلتت منه هذه الكلمة في حالة الغضب أو التشاجر، ثم ندم على ما فرط منه، وحاول الرجوع إلى زوجته، وربما أنها أم عياله، ثم سأل عن طلاقها العلماء الموجودين في بلده، وكلهم أفتوه بأنها حرام عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فإنه حينئذ تضيق به الأرض بما رَحبت، ويشتد حنقه[384] وقلقه على فراقها، ويزداد تلهفه على حبها، كما أنها تبكي على فراق زوجها، وقد قيل:
مُنعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا
فإنه حينئذ يعمل حيلته في توسط المحلل بينه وبين زوجته، وقد قال النبي ﷺ: «لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»[385] وسماه «التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ» وأكثر الناس لا يبالي عند وقوعه في هذه الضرورة كما قيل:
ألا قاتل الله الضـرورة إنها
تُبيح إلى المضطر أدنى الضـرائر
وقد ذكر في التاريخ أن رجلاً من العرب طلق زوجته بالثلاث فندم عليها حيث لم يجد من يفتيه بإرجاعها فأنشد:
ظلمتُك بالطلاق بغير جرم
ألا بِيني بنفـسي أن تبِيني
فأجابته بقولها:
رحلتُ إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن راني فلا يغترُّ بعدي
بحُلوِ القول أو يبلُو الدفينا
ومن طبيعة النفوس أنه متى سُدَّ عنها مشروعها فإنها تقتحم منه إلى محظورها.

ومن مساوئ الإفتاء بجعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو في طهر واحد أنها طلاق بائن، فإن من شؤم هذا الحكم وهذا الإفتاء، أنها نقلت أمة ظاهرة قاهرة من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة.

وذلك أن فارس في قديم الزمان غالبُ سكانه من أهل السنة، والشيعة فيه قليلون إلى عام 707هـ حيث تولى الحكم الملك خدابنده محمد بعد أخيه غازان، وقد كان أخوه غازان ميّالاً لأهل السنة، وجاء خدابنده واستمر بعض الوقت مقيمًا على السنة إلى أن كانت سنة 709هـ حينما انتقل إلى مذهب الشيعة.

يقول الخوانساري في مؤلفه روضات الجنات: إن لابن المطهر دورًا بارزًا في تحويل السلطان من مذهب أهل السنة إلى مذهب الشيعة، ويذكر لنا رواية تظهر هذا الدور الخطير.

وهي أنه غضب يومًا السلطان خدابنده من زوجته فطلقها ثلاثًا، ثم أراد أن يردها إلى عصمته، فقال له فقهاء أهل السنة: إنه لا سبيل إلى ذلك حتى تنكح زوجًا غيره. وصعب عليه ذلك، فأشار عليه رجال حاشيته من الشيعة أن يدعو فقيهًا من علماء الحلة[386] هو ابن المطهر، وأكدوا للسلطان أن هذا العالم هو الذي يخرجه من هذه الورطة، فلما حضر ابن المطهر واستفتاه السلطان فيما وقع منه من الطلاق ثلاثًا، سأله: هل طلقت بحضور شاهدين عدلين؟ قال السلطان: لا. فأفتى له ابن المطهر بأن الطلاق لم تتحقق شروطه، ولذلك لم يقع، وله أن يعاشر زوجته كما كان يعاشرها قبل الطلاق، فسُر السلطان بهذه الفتوى، فتشيع الملك. وبتسويل ابن المطهر كتب خدابنده إلى عماله بالأمصار بأن يُخطب باسم الأئمة الاثني عشر على المنابر، ونقش أسماءهم على نقوده، وأمر بأن تنقش على جدران المساجد والمشاهد منهم. انتهى.

فعند الشيعة أن الطلاق البدعي لا يصح ولا يلزم مثل الطلاق بالثلاث جميعًا، فإنها لا تصح عن واحدة، ولا عن ثلاث! وكذلك الطلاق في طهر جامعها فيه، أو الطلاق في الحيض، أو الطلاق غير المشهود عليه، فكلّ هذا يعدونه غير صحيح وغير لازم! ويستدلون بحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[387].

[383] متفق عليه من حديث عائشة. [384] الحنق شدة الاغتياظ. [385] أخرجه أصحاب السنن، والإمام أحمد، عن علي وعن عبد الله بن مسعود. [386] الحلّة: قرية مشهورة في أطراف بغداد. [387] متفق عليه من حديث عائشة.