متقدم

فهرس الكتاب

 

وجوب الالتزام بالشرع والوقوف عند حدوده

إن الله سبحانه أرسل رسوله محمدًا ﷺ يهدي إلى الهدى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه المبين ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، فجاءنا بدين كامل شامل، بيّن فيه الحلال والحرام وسائر الأحكام، فنظم حياة الناس في عباداتهم وبيعهم وشرائهم ونكاحهم وطلاقهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان.

فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لكانوا به سعداء، لأنه يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

وقد أكثر سبحانه من الآيات التي فيها أحكام النكاح والطلاق. فقال فيها:

﴿ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢ [البقرة: 232].

ورغب سبحانه في النكاح فقال: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة. وضَيّقَ مسالك الطلاق لكونه كريهًا عند الله، يهدم بيوت الأُسر والعائلات، ويفرق بين الأهل والبنين والبنات، ويوقع العداوة بين الأصهار والعائلات، روى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ». وقال: «إِنَّ الْمُخْتَلِعَاتِ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ»[381] وورد: «لَعَنَ اللهُ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ»[382].

لهذا شرع سبحانه في الطلاق أمورًا توجب التمهل فيه وعدم التسرع إليه، فشرع سبحانه أن لكل مطلقة عدة ثلاث حيض ممّن تحيض، أو بوضع حملها أو ثلاثة أشهر في الآيسة والصغيرة. وفي أثناء هذه العدة شرع الله للزوج فيها الرجعة ما دامت في عدته وحباله. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ ثم قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [البقرة: 228]. أي في زمن العدة لكون الرجعية زوجية إن ماتت في عدته ورثها وإن مات في عدتها ورثته، حكم من الله ولا تبديل لحكمه. ثم إنها ما دامت في عدته، فإنه يجب عليه نفقتها وسكناها وفي أثناء العدة ينظر في نفسه وهذه رحمة من الله لعباده، ولو ارتفع حيض ذات المحيض بسبب رضاع ونحوه فإنها تمكث في عدتها إلى حين رجوع الحيض إليها، ولا يحل لها أن تنتقل عنه إلى العدة بثلاثة أشهر لكونها من ذوات المحيض وليست من الآيسات.

ففرض العدة وجواز الرجعة زمنها هي فرائض مُحتمة من الله كفرائض الصلاة والصيام، لكن المقلدين من أهل المذاهب يستبيحون سقوط لوازم هذه العدة من النفقة والمسكن كما يحرمون الرجعة في زمنها ويسمونها المبتوتة.

﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50].

لهذا رأينا كاتب الرسالة لم يجعل لعدة النساء ذكرًا ولا للرجعة زمنها شأنًا؛ لأنه لو بيَّن العدة والرجعة لهدمت أُصول مذهبه، وهو إنما يتكلم في الطلاق بالثلاث سواء كان بلفظ واحد أو بألفاظ، فإن حكم الشرع لا يختلف في موضوعه، لكون المطلق لا يحق له إلا طلقة واحدة عند ابتداء كل طهر، فإن زاد عليها الثانية والثالثة اعتبرت لغوًا، لكون الرجعية لا يلحقها الطلاق زمن عدتها.

وروى البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». مما يدل على أن سنة الطلاق هو أن يطلقها تطليقة واحدة. ولأبي داود والترمذي وحسّنه أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت عنه، فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة واحدة. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في المختلعات والمفسوخات بأن يكتفى منهن بحيضة واحدة.

* * *

[381] رواه الترمذي والبيهقي عن ثوبان، ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر. [382] في رواية الطبراني عن أبي موسى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَّاقَاتِ».