فتوى ابن عباس في وقوع الطلاق بالثلاث
ثم قال الكاتب:
(ومن حجتهم على إيقاع الثلاث جميعًا، ما رواه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا. فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول يا ابن عباس. إن الله تعالى قال: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢﴾ [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربّك، وبانت منك امرأتك. وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير ابن عباس للآية).
فالجواب: أن ابن عباس رضي الله عنه هو حبر الأمة وترجمان القرآن وفقيه الصحابة، قد انفرد بأقوال وفتاوى خالفه فيها جُلُّ الصحابة.
وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وهذه الفتوى الصادرة منه هي رأي ويدفع بروايته، لكون الرواية مقدمة على الرأي. وقد قال طاوس: أشهد بالله لقد سمعت ابن عباس يجعل الطلاق بالثلاث واحدة.
وقد حكى شيخ الإسلام عن الإمام أحمد أنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رَجع عن رأيه، وقال: تدبّرت الكتاب والسنة فرأيت أن الطلاق الشرعي هو الرجعي، فلا يقع بالثلاث جميعًا إلا واحدة. وأن ابن عباس في زمانه لا يستطيع أن يخالف رأي عمر، فأفتى السائل بما أنفذه عمر من بينونة زوجته، قال: يركب أحدكم الأحموقة فيطلق ثلاثًا، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! عصيت ربك وبانت منك امرأتك[374].
والله سبحانه نصب العلماء كالنجوم يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، فلو عذرنا من أفتى بذلك زمن عمر، فإن عمر رضي الله عنه قد مضى إلى رحمة الله تعالى، وعندنا كتاب الله وسنة رسوله فهما الحكم القسط يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان الخلاف إلى مواقع الإجماع. والناس في هذا الزمان وخاصة بعض العلماء وأكثر العوام، يرون أن الطلاق بالثلاث جميعًا مشروعة، فهم يسألون متى وقعوا في هذه الشبكة إلى من يخرجهم منها.
فمن واجب العالم التقي والحاكم الشرعي أن يبين للناس ما نزل إليهم من شريعة ربهم.
وعلى فرض صحة الأثر عن ابن عباس، فإنه محمول على كونه أفتى به في خلافة عمر، فلا ينبغي أن يخالفه في أمر أراد عمر أن يؤدب به رعيته، ليرجعوا إلى الطلاق الشرعي الذي يملك به الرجل عصمة امرأته. ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ [الطلاق: 1].
لكنة انقلب الأمر بعد أمير المؤمنين عمر، حيث جعل الناس هذا الطلاق البدعي هو السُّنِّي، وأصبحوا لا يعرفون غيره، شبّ عليه الصغير وهرم عليه الكبير حتى نسوا معالم الطلاق الشرعي وآدابه.
ثم إن هذا الأثر عن ابن عباس يؤكد صحة ما قلنا، من أن الطلاق بالثلاث جميعًا هو بدعة ومنكر من القول وزور. وقد قال ابن عباس لمن سأله عنه: أنت عصيت ربك. وكفى بعصية الله إثمًا. ثم قال: وإنك لم تتق الله - أي بامتثال أمره واجتناب نهيه - فلم يجعل لك فرجًا ولا مخرجًا؛ لكون الناس زمن الرسول ﷺ وأصحابه وزمن نزول القرآن يعرفون الطلاق الشرعي ويوقعونه على حسبه عند حاجتهم إليه، وإن أوقعوه جميعًا جعلوه عن واحدة، كما جرى لطلاق أبي ركانة، وطلاق أبي حفص لزوجته فاطمة بنت قيس، وطلاق صهر معقل بن يسار. وحيث شبّ الناس على هذا الطلاق البدعي من لدن أتباع الأئمة، وصاروا لا يعرفون غيره، فإنه ينبغي أن يجاب السائل بما أنزل إليه من ربه، لكون العامي مشتق من العمى، والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ﴾ [النحل: 43-44].
ولكل مقام مقال، فهؤلاء الذين يتعجلون بإيقاع الثلاث جميعًا، هم من العوام الذين لا يعرفون أحكام الإسلام ولا شريعة الطلاق، ويضيق صدر أحدهم بامرأته، وقد عرف أن الطلاق في الشرع هو ثلاث، فأراد أن يتعجل هذه الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات في مجلس واحد، فيبت بها طلاقها حتى يسلم من نفقة عدتها وسكناها. وهي مخالفة صريحة لأمر الله وحكمه، ومثل هذه الفتيا رجل مقلّد سأله إنسان عن طلاق زوجته بالثلاث جميعًا، فحرّمها عليه إلا بعد نكاح زوج غيره، ثم أنشد شعرًا ضمنه كتابه:
يا سائلي عن رجل قد طلقا
زوجته وبالثلاث نطقا
بلفظة واحدة قد جمعا
مرتكبًا محرمًا مبتدعا
ثم أتى مستفتيًا ليرجعا
فالحكم أن يُضرب ضربًا موجعا
لأنه طلاق بدعي
وبائن في الشرع ليس رجعي
فهذا أحد علماء الأحساء ويدعى الشيخ أحمد بن مشرف وهو سلفي العقيدة، لكنه من المقلدين الذين يقيّدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، كما ترى من شعره، وقد سمعت حكمه على هذا السائل بأن يُضرب ضربًا موجعًا، مع كونه يعترف بأنه طلاق بدعي، فهذا وأمثاله كثيرون.
ومثله الشاعر الرصافي الذي طلق زوجته ثلاثًا جميعًا، فطاف على العلماء يسأل عن طلاقه، وكل واحد منهم يقول: بانت منك وحرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك. فعمل قصيدته البائية ومنها:
ألا قُل في الطلاق لموقعيه
بما في الشرع ليس له وجوبُ
غَلوتُمْ في ديانتكم غُلوًّا
يضيق ببعضه الشـرعُ الرحيبُ
وَهَى حَبلُ النكاح وصار حتى
يكاد إذا نفخت به يذوب
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
فذا ابن القيم الفقهاء كم قد
دعاهم للصواب فلم يُجيبوا
والذي جعل هذا الطلاق البدعي يستفحل أمره واتباعه بين الناس حتى لا يعرفون غيره، هو كثرة أنصاره من سائر المقلدين لأئمة المذاهب.
وحسبنا ما نقله الكاتب عن الإمام ابن العربي رحمه الله، حيث قال: اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد للأحكام، بأن الطلاق بالثلاث جميعًا وإن كان في قول بعض العلماء أنه بدعة، وفي قول الآخرين أنه حرام، فإن هذا الطلاق لازم.
إذا كان هذا نص قاضٍ وحكمهُ
فمن ذا الذي منه الهدى يُتعلمُ
قال العلامة ابن القيّم في مختصر الفوائد: إن الناس لما أعرضوا عن تحكيم الكتاب والسنة، ورأوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس واستحسان أقوال الشيوخ، عرض لهم في ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم، فعمّتهم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى رُبِّي فيها الصغير وهرم عليها الكبير. ثم جاءت بعدهم دولة أخرى أقامت البدعة مقام السنة، والمنكر مقام المعروف، والظلم مقام العدل. وكان أهل هذه الأمور المشار إليهم بالأصابع، فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وجيوشها قد ركبت[375]، فبطن الأرض - والله - خير من ظهرها، ومخالطة الوحش خير من مخالطة الناس. انتهى.
وذكر العلامة ابن القيّم أيضًا: أنه قد صح عنه ﷺ أن الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وأن الصحابة كانوا على ذلك، وأنهم كانوا يفتون به في حياته وحياة الصديق...
وقد أفتى هو ﷺ به. فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أَخذٌ باليد[376]، ولا معارض لذلك، ورأى عمر رضي الله عنه أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرًا لهم، لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه، غايته أن يكون سائغًا لمصلحة رآها، ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله ﷺ وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته، فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء. وبالله التوفيق.
وقال في موضع آخر: هذا كتاب الله تعالى، وهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدّهم العاد بأسمائهم واحدًا واحدًا، لوَجَد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى وإما وبإقرار عليها. ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك، فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر. وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى أو إقرار أو سكوت، وقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنًا بعد قرن وإلى يومنا هذا.
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا. بفم واحد؛ فهي واحدة[377]. وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف.
وأما التابعون فأفتى به محمد بن إسحاق وخلاس[378] بن عمرو والحارس العكلي. وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض أصحاب مالك، وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أصحاب أحمد.
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله. والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول اللهﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه. ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان[379]. انتهى حاصله. وقال الشيخ يوسف القرضاوي:
إن عيب الكثيرين من المشتغلين بالعلم أنهم سجنوا أنفسهم في قمقم التقليد والتعصب لمذهب معين لا يخرج أحدهم عنه، وإن بدا له ضعف مأخذه أو تهافت دليله لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أرجح ميزانًا وأفصح برهانًا. هذا مع نهي الأئمة المتبوعين رضي الله عنهم عن تقليدهم وترغيبهم في العودة إلى المنابع والأخذ من حيث أخذوا.
والحق أن التقليد لا يسمى علمًا، فالعلم هو معرفة الحق بدليله لا مجرد تلقي اللاحق عن السابق والخلف عن السلف، وإذا قُبل التقليد من العوام لم يُقبل أبدًا من العلماء الذين وقفوا حياتهم على العلم والبحث، ورحم الله من قال: لا يُقلد إلا عصبي أو غبي.
ويقول: وكم من عالم خلع ربقة[380] التقليد من عنقه وانتهى به البحث إلى رأي ارتضاه، ولكنه يكتمه أو يبوح به لخاصته والقريبين منه ولا يجرؤ على إذاعته بين جمهور الناس اتقاء لثورتهم التي لا تقف عند حد، وحرصا على السلامة من ألسنة هي أحدُّ من السيوف... والعالم الشجاع إذا وصل باجتهاده إلى رأي في قضية أذاع به وأعلن عنه ولم يبال في ذلك بهياج العامة وبسخط الخاصة. انتهى.
وقد قال بعض العلماء: إن محاسن الإسلام وحقائقه تذهب بين الجاحد والجامد. وقيل:
شكا دينُ الهدى مما عراهُ
بأيدي الجاحدينا الجامدينا
فالجاحدون يحسبون الدين جهلاً والجامدون يحسبون الجهل دينا
* * *
[374] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [375] ركبت: أي علت وظهر أمرها. [376] لعله يقصد: أي يأخذ أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم بيد بعض في القول بفتوى رسول الله ﷺ. أو لعله يقصد أن هذه أدلة كأنها تأخذ بيد المستفتي إلى أقرب الطرق لمعرفة الصحيح من المسألة. [377] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس. [378] لعله يقصد حديث أبي ركانة: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» رواه أحمد وأبو يعلى، وحديث مسلم عن ابن عباس أن الطلاق ثلاثًا كان واحدة على عهد رسول الله ﷺ. [379] ذكره صاحب الروضة الندية في الجزء الثاني كتاب الطلاق. ص51 - 54. [380] الرِّبْقَة والرِّبْق بمعنى واحد، وهو حبل يشد في عنق البهيمة والمراد: خرج من دائرة المقلدين.