عمر بن الخطاب وإمضاء الطلاق بالثلاث
ثم قال الشيخ محمد أمين: الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هنَاتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة! فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع[369] الناس في الطلاق فأجازه عليهم. هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهذه الطريقة الأخيرة أخرجها أبو داود.
وقال بدله: عن غير واحد. ولفظ المتن: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل جعلوها واحدة على عهد رسول اللهﷺ وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناسَ، يعني عمر، قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم.
وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:
الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة، ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلاً ولا شرعًا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاث مرات في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث، لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة؟ من أين أخذت كونها بكلمة واحدة؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له: الطلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أسعد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له. وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد، سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع، مما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة. انتهى.
فالجواب: أن الشيخ - رحمه الله - في تقريره قد تهالك في تقوية رأيه ونصر مذهبه، على حسب ما يعتقد من جعل الثلاث متى وقعت بلفظ واحد أو ألفاظ متعددة فإنه طلاق شرعي غير بدعي، فإن قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ يريد به الطلاق الشرعي، وكونه يقع عند ابتداء كل طهر. وهذا معنى قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] أي في قُبل عدتهن، كما قال ابن عباس: إن الطلاق عند كل طهر[370]. ثم إنه حاول إدخال هذه الرواية الضعيفة التي فيها طلاق غير المدخول بها، فساق قول ابن عباس: إن الإنسان إذا طلق امرأته غير المدخول بها ثلاثًا جعلوها واحدة، يوهم الناس أن الإجماع السابق الذي كان على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر أنه طلاق غير المدخول بها فسبحان الله!.. كيف يتم صرف الكلام إلى غير المعنى المراد منه، فإن غير المدخول بها تَبين بواحدة بقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩﴾ [الأحزاب: 49]. فهذه القضية لا خلاف فيها بين الصحابة ولا عند العلماء الذين ينكرون الطلاق بالثلاث كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيّم وغيرهما. ثم إن قوله: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. فإنها تعتبر ثلاثًا. يريد أن يجعل هذا الطلاق بصفته طلاقًا شرعيًا، ونحن إنما نحمل قوله مع جلالة قدره وسعة علمه على عدم التفقه في الطلاق الشرعي، لكونه قد صرف جُلّ علمه وجلّ فهمه في الطلاق البدعي، يحاول جعله شرعيًّا، فأنى له برفع أنف جدَّعته المخالب.
والطلاق الشرعي يجب أن يكون عند ابتداء كل طهر، فمتى قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق. في طهر لم يجامعها فيه، فإنها تطلق بواحدة، والثنتان تعتبران لغوًا. لأن المفروض كون الطلاق رجعيًّا فرضًا محتمًا على الناس لقوله سبحانه: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1] أي في قبل عدتهن، والرجعية لا يلحقها طلاق.
فسنة الطلاق هي أن الإنسان متى عزم على طلاق زوجته فإنه يجب عليه أن يراعي حدود الله ومحارمَه، والله يقول: ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ﴾ [الطلاق:1].
فمن واجب الإنسان أن يطلِّق في طهر لم يجامعها فيه، ثم يتركها حتى تحيض حيضة، وبعد فراغها من غسلها عن الحيض، فإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها، كما يُشهد على طلاقها، وإن لم يراجعها فإنها تمضي في سبيلها في تكميل عدتها المشروعة في حقها، إلى أن تحيض الحيضة الثالثة وتغتسل منها، وعند ذلك تَبين من زوجها بينونة صغرى، إذا لم يطلقها سوى الطلقة الأولى، سواء كانت واحدة أو الثانية، فإن راجعها في خلال عدتها قبل أن تغتسل من حيضتها الثالثة، فهي زوجته كحالته السابقة بلا عقد ولا غيره لكون الرجعية زوجية، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ والقرء هو: الحيض، ويطلق على الطهر. ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة. أما إذا خرجت من العدة أي بعد أن اغتسلت من حيضتها الثالثة، فقد قلنا بأنها تبين من زوجها بينونة صغرى. بمعنى أنه إذا ندم زوجها على طلاقها، وحاول أن يخطبها من أهلها، فإنها تباح له حينئذ بعقد جديد مستوف لشروط الصحة، إذ هو كخاطب من الخطّاب، وهذا من فضائل الطلاق الشرعي، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ﴾ [البقرة: 232].
قال ابن كثير في التفسير عن علي بن طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله الأولياء أن يمنعوها.
وذلك أن الطلقة الواحدة تبين المرأة إذا لم يراجعها زوجها في عدتها، ومثله الطلقتان المفرقتان، وعند الثالثة إما أن يمسك بمعروف أو يطلق بإحسان، فإن لم يطلق فإنها تطلُق منه ولا تحل له إلا بعقد جديد. وقد روى البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في معقل بن يسار وأخته، أن أخته طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها زوجها، فأبى معقل، فنزل قول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ﴾.
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار، وصححه الترمذي أيضًا ولفظه: عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله ﷺ فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهواها وهوته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لُكع بن لُكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٢٣٢﴾ [البقرة:232].
فدلت هذه الآية وتفسير الحديث لها على حسن الأدب مع الله في اختيار الطلاق الشرعي، وحسن عاقبته، من كون الزوج متى ندم على طلاقه ورغب في زوجته ورغبت فيه فإنه يجوز بعقد مستأنف من جديد.
بخلاف الحكم بلزوم الطلاق بالثلاث، وكون المقلدين يحرمونها على زوجها إلا بعد زواجها بآخر. فهم كما قال شيخ الإسلام: يحرمونها على زوجها الذي هي حلال عليه، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه، تمشيًا مع مذهبهم وعلمائهم الذين يحكمون بذلك، وعلى إثر هذا الطلاق (المبتوتة) تسعى المرأة وزوجها في سبيل توسط المحلِّل لها. وقد لعن رسول الله المحلِّل والمُحلَّل له وسماه «التيس المستعار».
وروى مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم.
وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة؟! قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم وأجازه [371].
وأقول: إن هذا الحديث يدل على ما دل عليه القرآن في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] والمرتان من شأنها أن تكون مرة بعد أخرى، وأن تكون كل مرة عند ابتداء كل طهر، إلا أن تكون المرأة حاملاً أو آيسة. يقول ابن عباس: إن الطلاق عند ابتداء كل طهر [372]. وهذا هو الإجماع السابق الذي دل عليه هذا الحديث زمن النبي ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر. وما كان شرعًا سابقًا زمن الرسول، ولم ينسخه الرسول فإنه شرع الله الذي لا يتغير ولا يتبدل إلا بسبب يقتضيه الشرع، وعمر وابن عباس وسائر الصحابة بشر ليسوا بمعصومين، قد يقع من أحدهم الخطأ على سبيل الاجتهاد، وله على خطئه أجر وعلى صوابه أجران.
لكن لا يكون حكمه أو تأديبه شرعًا مستمرًّا دائمًا، فمع فرض كونه أدّب الناس زمن ولايته ليرتدعوا عن سوء ما يعملون من شأنهم في الطلاق بالثلاث جميعًا، وهو أمر محرّم فألزمهم به تأديبًا لهم، فإنه لا يلزم أن يستمر هذا التأديب إلى يوم القيامة، وشرع الله أوفق ودين الله أحق.
ونحن نسوق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيله لهذا الطلاق الذي ألزم عمر الناس به.
قال شيخ الإسلام تعليقًا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم. فأنفذه عليهم.
قال: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث...
وإن قُدِّر أن عمر رأى ذلك لازمًا فهو اجتهاد منه اجتهده.
ومن جعل قول عمر فيه شرعًا لازمًا قيل له:
هذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رَدّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول.
وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين فيه بعمر. ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق عليٍّ الزنادقة بالنار، ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل الله له فرجًا ومخرجًا ولم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم، ألا يطلق إلا سُنِّيًّا، فإنه من المتقين في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة بل يلزم بواحدة فيها.
والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين:
إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر، وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازمًا.
وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي.
وعلى هذا فالقول الراجح لهذا الموقع أنه يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته. انتهى[373].
فمتى علمنا هذا وكون عمر قد أراد به خيرًا، وقد تربى الناس على صحة إيقاع الطلاق بالثلاث، شب عليه الصغير وهرم عليها الكبير، ولم يجدوا من العلماء من يبين للناس خطأهم فيها، وصار العوام وبعض العلماء يظنونها حقًّا، ويحكمون بموجب لزومها؛ يعمد الشخص إلى أحد القضاة أو كتاب الوثائق فيوقع طلاق امرأته عنده بالثلاث، ثم يرجع إلى بيته فيصيح بامرأته وورقة الطلاق بيده، ويقول: اخرجي عن بيتي، أنت طالق، فلا يحل لي أن أرى وجهك. فينفذ القاضي صحة قوله وطلاقه، فلا يحكم لها بنفقة ولا سكنى، لاعتبار أنها مبتوتة أي مقطوعة. واعتمد الأئمة لصحة وقوع هذا الطلاق على حديث فاطمة بنت قيس أن أبا حفص طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وأبو حفص إنما طلقها طلقة بعد طلقة، ثم أرسل لها الثالثة وهو باليمن. وهذه قد استوفى زوجها عدد الطلقات الثلاث وهي في بيته، فلا سكنى لها ولا نفقة.
ولما استدعاها مروان بن الحكم وسألها عن الطلاق الواقع عليها، حيث استفاض بين الصحابة أنها امرأة قد تحفظ وقد تنسى، فقالت لمروان: بيني وبينكم كتاب الله، إن الله يقول: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ [الطلاق: 1] فهل بعد إيقاع الثلاث ينتظر أمر يحدث.
لهذا التزم المقلدون بالاستدلال بهذا الحديث، وهو واقع في غير موقعه الصحيح، فلا يقاس عليه طلاق المبتوتة التي طلقها زوجها بالثلاث في مجلس واحد وبلفظ واحد، فإن هذه في حكم الشرع رجعية، كما قال ابن عباس: إن الطلاق في أول كل طهر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
إن الطلاق الشرعي من لوازمه أن يكون رجعيًّا، بحيث إذا ندم على طلاقه أرجع زوجته إلى عصمته ما دامت باقية في عدته.
بخلاف من يحكمون بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًّا، فإنهم يحرمونها عليه ويسقطون نفقتها وسكناها فيندم حيث لا ينفع الندم كما قيل:
ندمت وما تغني الندامة بعد ما
خرجن ثلاث ما لهن رَجيع
ثلاث يحرِّمْنَ الحلال على الفتى
ويَصْدعْنَ شمل الدار وهو جميع
يقول العلامة ابن القيّم في كتابه إغاثة اللهفان: إن الذين يفتون بإيقاع الثلاث جميعًا أعظم إثمًا من الذين يفتون بجعلها عن واحدة وكونها تحل لزوجها، فإن هؤلاء يبيحونها لزوجها فقط، أما أولئك الذين يحرمونها بالثلاث، فإنهم يحرمونها على زوجها وهي حلال له، ويبيحونها للغير وهي حرام عليه. انتهى.
* * *
[369] التتايع: هو التتابع في الشر بدون تروٍّ ولا تفكير. [370] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [371] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [372] أخرجه أحمد من حديث ابن عباس. [373] من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية مجموعة الشيخ ابن قاسم ص96، ص97 ج33.