الحكم في طلاق ابن عمر لامرأته وهي حائض
ثم قال الكاتب:
(ومن جملة الأحاديث التي استدلوا بها على الطلاق بالثلاث هو ما جاء في روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض، فاحتسبت بواحدة.
ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره).
فالجواب: أن هذا الحديث له مدخل صحيح في كون الثلاث عن واحدة، وفي كون الحائض لا يلحقها طلاق، وفي كون الطلاق الشرعي لابد أن يقع في طهر لم يمسها فيه. ولفظ الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله ﷺ، فسأل عمر رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا». وفي رواية أخرى: قال ابن عمر: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.
وهذا الحديث هو نص من أصول الدين، ويبين بطريق الوضوح أدب الطلاق ومشروعيته وبدعته، وكل بدعة ضلالة، وعلى فرض كونه طلقها ثلاثًا أو واحدة، فقد أمره رسول الله ﷺ بارتجاعها، أي ردها لتبقى عنده كحالتها السابقة، لكون هذا الطلاق في الحيض لم يصادف محلًّا للقبول، فكان باطلاً. وهذا معنى قول ابن عمر: فردها عليَّ ولم يرها شيئًا. ولهذا كان ابن عمر يفتي بما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وبما ثبت في القرآن الكريم، ويقول لمن سأله: أما أنت طلقتها واحدة أو اثنتين فإن رسول الله ﷺ أمرني أن أراجعها. لاعتبار أن هذا الطلاق يعتبر طلاقًا رجعيًّا ممّا يدل بطريق الوضوح أن الطلاق بالثلاث هو كالطلاق بالثنتين، الذي أفتى رسول الله ﷺ ابن عمر بأن يردها ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
وأما قول ابن عمر: أما أنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. رواه مسلم.
فهذا هو الجواب الشافي الكافي والذي يجب أن يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، وأن المطلق بالثلاث جميعًا هو كالمطلق بالثنتين جميعًا.
وقد قال فيه ابن عمر: إن كنت طلقتها ثلاثًا فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك. لكونه طلاق بدعة غير مشروع، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ» [368] وكفى بمعصية الله إثمًا، ولهذا قال: فردها عليّ ولم يرها شيئًا.
وأما الرواية الأخرى التي فيها: فردها عليّ وحسبت تطليقة. فإن هذه الرواية ينفيها صحة الحديث، فإن الرسول لا يحتسب إلا الطلقة الشرعية لا البدعية، كما عليه مدار نصوصه وأصوله. ويترجح أنها من قول بعض الرواة المقلدين لمذاهبهم، ولهذا كان ابن عباس يرى أن الطلاق عند أول كل طهر.
ثم إن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقود بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم.
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشـروط فكان ذا بطلان
قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار: (باب الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا معًا) ثم ذكر حديث أبي الصهباء، ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا فقد وقعت عليها واحدة، وذلك أن تكون طاهرًا في غير جماع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا الوقت على صفة، فطلقوا غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم. ألا ترى لو أن رجلاً وكَّل رجلاً وأمره أن يطلق امرأته في رمضان فطلقها في شعبان، أو أمره أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثًا، فإن طلاقه لا يقع لمخالفته لما أُمر به. ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم يبرك على ركبتيه، ويفجّر عينيه ويصول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق. ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل وقلبه). انتهى كلام الطحاوي.
* * *
[368] متفق عليه من حديث عائشة.