متقدم

فهرس الكتاب

 

غضب رسول الله ﷺ من الذي طلق ثلاثًا بلفظ واحد

ثم قال الكاتب:

(ومن أدلة وقوع الثلاث جميعًا ما رواه النسائي:

عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام غضبانًا، فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ أي: من شدة غضبه عليه. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن المطلِّق يظن الثلاث المجموعة واقعة، فلو كانت لا تقع لبيَّن النبي ﷺ أنها لا تقع، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ويقول: إن المناسب لمرتكب الجريمة التشديد لا التخفيف).

فالجواب: أن هذا الكاتب قد حذق في قلب الحقائق، وأن الاحتجاج بهذا الحديث يعد من قبيل ذلك، فهو حُجة عليه لا له؛ فالاحتجاج به على التحريم آكد لا الإباحة، والاستدلال به على الوقوع من باب التكهن والزيادة في الحديث ما ليس فيه، ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات البتة، ولكن المقلد لا يبالي في سبيل تقليده بما اتفق له، إذ كيف يُظن برسول الله ﷺ أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله تعالى وصححه واعتبره في شرعه وحكمه، ونفذه وقد جعله مستهزئًا بكتاب الله تعالى؟! وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث، ولا جعله في أحكامه.

وحسبك شدة غضب رسول الله ﷺ في إنكاره، وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله، وإلا فإن من صفته أنه ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] ولما استبدل هذا الرجل الطلاق الرجعي الذي هو سنة الله ورسوله بالطلاق البدعي، فعند ذلك اشتد غضب رسول الله ﷺ عليه، حتى قال رجل: أفلا أضرب عنقه يا رسول الله؟ وليس من هديه أنه يقابل الإساءة بالإساءة، ولا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله. كما قال بديل بن ورقة:
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سِيمَ خسفًا وجهه تعربدا
ثم قال الكاتب:

(ويدل على صحة وقوع الطلاق بالثلاث جميعًا ما رواه أبو داود عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق أم ركانة البتة، وأن رسول الله ﷺ استحلفه ما أراد بها إلا واحدة).

وقد تعرض الكاتب لحديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى وصححه بعضهم قال: طلق أبو ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي ﷺ: «كَيْفَ طَلَّقْتَهَا؟» قال: ثلاثًا في مجلس واحد. فقال النبي ﷺ: «إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ» فارتجعها.

ثم قال الكاتب: (إن هذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه:

الأول: أنه لا دليل فيه البتة على محل النزاع - على فرض صحته - لا بدلالة المطابقة، ولا بدلالة التضمن، ولا بدلالة الالتزام، لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد ولا يلزم منها كونها بلفظ واحد).

فالجواب: أن هذا الكاتب عفا الله عنه، يظهر منه أنه لا يقبل إلا الحديث الذي يتمشى على مذهبه ولو كان ضعيفًا.

أما الحديث الصحيح الذي يثبت كون الطلاق متى وقع بالثلاث في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة كهذا وأمثاله، فإنه يقابله بالرد والإنكار وصرفه إلى غير المعنى المراد منه، وهذا الحديث موافق لحكم الله ورسوله على أن الطلاق بالثلاث إذا وقع جملة واحدة فإنه لا يكون إلا عن واحدة.

وأما دعواه بأنه لم يثبت كونها بلفظ واحد، فإنها غلطة منه وعدم فقه منه بالطلاق الشرعي، فإنه متى طلقها بالثلاث بلفظ واحد، أو بعدد ألفاظ في مجلس واحد، فإنما يقع عليها واحدة فقط، والطلقتان الباقيتان تعتبران لغوًا في الكلام، بحيث لا يعتد بهما، لكون الرجعية لا يلحقها طلاق في طهرها. ولا يحق لكل إنسان أن يطلق في الطهر الذي لم يجامع زوجته فيه إلا طلقة واحدة، سواء وقعت بلفظ الثلاث أو بواحدةٍ، وسواء أكانت في مجلس أو في مجالس، إذ الطلاق الشرعي من شرط صحته كونه رجعيًّا. فدل هذا الحديث على بطلان الطلاق بالثلاث مجتمعة وأنه لا يقع فيه إلا واحدة بالالتزام والمطابقة والتضمن.

ويكفينا في الرد عن هذا كله قول الرسول ﷺ لأبي ركانة: «إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها» [367]. وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ونحن نسوق قول العلامة ابن القيم في إغاثة اللهفان عن حديث أبي ركانة مفصلاً قال:

ضعف حديث أبي ركانة في الطلاق البتة:

وأما حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة وأن رسول الله ﷺ استحلفه: ما أراد بها إلا واحدة، فحديث لا يصح. قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل: قال أحمد: حديث أبي ركانة في البتة ليس بشيء. وقال الخلال في كتاب العلل: عن الأثرم قلت لأبي عبد الله: حديث أبي ركانة في البتة، فضعفه. وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث البتة، وكذلك أبو محمد بن حزم، وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم. قال: وقال الإمام أحمد: حديث أبي ركانة أنه طلق امرأته البتة لا يثبت، وقال أيضًا: حديثٌ ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا. وأهل المدينة يسمون من طلق امرأته ثلاثًا (البتة)

فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأن أهل بيته أعلم. يعني وهم الذين رووا حديث البتة. قال شيخنا في الجواب: إنما رجّح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه رُوي حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول، فقال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد البر عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس: طلق عبد يزيد، أبو ركانة أم ركانة ثلاثًا.. الحديث. ولم يرووا الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه: طلق أبو ركانة بن يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد.

فلهذا رجح أبو داود حديث البتة على حديث ابن جريج، ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه، ولا ريب أنه أصح من الحديثين، وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد، فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحاق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم اليقيني، فإنها أقوى من حديث البتة بلا شك، ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك، فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الأئمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث الصحيحة؟! انتهى.

* * *

[367] أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس.