متقدم

فهرس الكتاب

 

نفقة المطلقة وسكناها

ثم قال الكاتب:

(إن عدم النفقة والسكنى لا يتوقف على عدم الطلاق، وأوضح دليل على ذلك ما صح عنه من حديث فاطمة بنت قيس، أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلم يجعل لها رسول الله نفقة ولا سكنى. أخرجه مسلم في صحيحه وهو نص صحيح صريح في أن البائن بالطلاق لا نفقة لها ولا سكنى).

فالجواب: أن هذا الكاتب يحوم حول جواز إيقاع الطلاق بالثلاث جميعًا مع سقوط النفقة والكسوة والسكنى والرجعة، لكون صحة وقوع الطلاق لا يستلزم وجوب النفقة والسكنى بزعمه. ويستدل لذلك بحديث فاطمة بنت قيس الذي رواه مسلم وأهل السنن، أنها طلقها زوجها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. فهو عند الأئمة الذين يجيزون الطلاق بالثلاث بلفظة واحدة ويسمونها مبتوتة كما قيل:
مبتوتة الطلاق لا سكنى لها
إلا على زوج إذا أحبلها
ويستدلون على ذلك بهذا الحديث.

والجواب عنه يعرف من فحوى لفظه، فإن حديث فاطمة بنت قيس يفيد أنه أرسل لها زوجها وهو باليمن آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أنه الإجماع السابق في الطلاق، وهو أن يكون مرة بعد مرة في خلال الأقراء، فطلاق فاطمة بنت قيس ولو ذكره العلماء والمصنفون بلفظ الثلاث فإنه وقع دفعات حسب الطلاق الشرعي، فآخر طلقة أرسلها لها وهو باليمن، وأمر وكيله بأن يذهب لها بشعير وتمر، فسخطته وذهبت إلى رسول الله ﷺ تشكوه، فقال رسول اللهﷺ: «إِنَّهُ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» وهذا هو الواقع المطابق للحق والعدل.

فقد أصبحت فاطمة بنت قيس بائنة من زوجها بالطلقة الثالثة بينونة كبرى، فلا نفقة لها ولا سكنى، ولا تحل لزوجها الأول أبي حفص بحال إلا بعد نكاح زوج غيره. لكن بعض الفقهاء ومنهم الكاتب يتعصبون للمذهب بتصحيح وقوع الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، ويسمّونها المبتوتة، فيحرمونها من النفقة والكسوة والسكنى والرجعة من حين وقوع الطلاق، ويبطلون حكم الله في قوله:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١ [الطلاق: 1].

فالحاكمون بجواز الطلاق بالثلاث دفعة واحدة، يحكمون بلزومها ولزوم ما يترتب عليها من قطع النفقة والكسوة والسكنى وسائر الحقوق التي فرضها الله، وإن مات الزوج لم ترثه زوجته بعد وقوع لفظ الطلاق، وإن ماتت الزوجة لم يرثها زوجها عندهم. ولهذا استدلت فاطمة بنت قيس على بعض الصحابة لما دخل على بعضهم الشك لما حكم رسول الله ﷺ بسقوط نفقتها وسكناها عن زوجها، فتلت عليهم هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١. قالت: وما هذا الأمر الذي يحدث بعد وقوع الطلاق الثلاث مفرقة؟[365] أي: فلا سكنى لها على زوجها ولا نفقة؛ لأنها قد أمضت نفقتها وسكناها في بيت زوجها وقت عدتها.

ونحن نسوق حديث فاطمة بنت قيس في تصريحها بأن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، مما يدل على أن جمع الطلاق بالثلاث في لفظة واحدة أنه بدعة وغير معروف من الصحابة، والحكم بلزومه ولزوم ما يترتب عليه خطأ وظلم.

وأشارت فاطمة بنت قيس إلى أن النفقة لا تكون إلا لمن هو له حق الرجعة عليها في حالة عدتها، وبعد الثلاث المفرقة لا رجعة ولا نفقة.

وروى مسلم عن فاطمة بنت قيس عن النبي ﷺ في المطلقة ثلاثًا «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةٌ». وفي رواية لمسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات.

فحديث فاطمة بنت قيس قد التبس على المحدثين وأئمة المذاهب وعلى الفقهاء، لوروده أحيانًا بقوله: طلقني ثلاثًا ولم يجعل لي رسول الله ﷺ نفقة ولا سكنى. وهذا صحيح لكنها ثلاث مفرقة ليست مجتمعة، والمفسر يقدم على المبهم.

وروى الإمام أحمد من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي ﷺ قال لها: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَلَا نَفَقَةَ، وَلَا سُكْنَى».

ويدل لذلك: ما روى أبو داود من حديث أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فزعمت أنها جاءت رسول الله ﷺ فاستفتته في خروجها من بيتها، فأمرها أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتوم الأعمى، فأبى مروان أن يصدق حديث فاطمة في خروج المطلقة من بيتها، وفي رواية أن مروان أرسل إلى فاطمة بنت قيس فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص.

وكان النبي ﷺ قد أمّر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملاً. فأتت النبي ﷺ فقال: «لَا نَفَقَةَ لَكِ، إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا».

فهذه النصوص الصحيحة الصريحة تدل على صحة حديث فاطمة بنت قيس، سواء وقع باسم الثلاث، أو وقع بآخر طلقة، إذ المعنى واحد لا يختلف، ويدل بطريق الوضوح على أن المفروض في الطلاق هو أن يقع مرة بعد أخرى في خلال العدة، وكونه لا حق للرجل أن يوقعه دفعة واحدة فيقطع نفقة زوجته زمن العدة وسكناها. كما أن النبي ﷺ غضب على الذي طلق امرأته ثلاثًا بلفظ واحد، فقام غضبان وقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» حتى قال رجل: أفلا أقتله يا رسول الله؟ وذلك من شدة غضب الرسول عليه. رواه النسائي ورواته مُوثَّقون.

فشدة غضب الرسول ﷺ على هذا يدل على أن جمع الثلاث بلفظ واحد أنه بدعة ومنكر من القول وزور، ويدل على عدم وقوعه لمنافاته لنصوص القرآن والسنة، التي يأمر الله فيها بالطلاق في العدة أي الطهر. ولمنافاته لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[366].

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

إن الطلاق الشرعي هو الطلاق الرجعي المستلزم لوجوب النفقة والسكنى على الزوج خلال العدة، وإن مات الزوج ورثته لكون الرجعية زوجية، وإن ماتت الزوجة ورثها. وقال: ولا نعرف أن أحدًا على عهد النبي ﷺ طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا رُوي في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا.

وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة، بل إن ما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله.

ومتى وقع الطلاق على خلاف ما سنه الله في كتابه وعلى لسان رسوله لم يكن لازمًا نافذًا؛ لأن الأصل الذي عليه السلف والفقهاء، أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة ولا صحيحة، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».

* * *

[365] تقصد أن المراد بالمطلقة في الآية هي الرجعية؛ لأنها هي التي يؤمل رجعتها حتى يكون لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ معنى وبذلك تكون السكنى في الآية خاصة بالرجعية. [366] متفق عليه من حديث عائشة.