الطلاق بعد اللعان بين الزوجين لغو لا معنى له
ثم قال الكاتب:
(اعلم أن من أدلة القائلين بلزوم الثلاث مجتمعة حديث سهل بن سعد الساعدي الثابت في الصحيحين في لعان عويمر العجلاني وزوجه، فإن فيه: فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ.
أخرج البخاري هذا الحديث تحت الترجمة المتقدمة عنه[360]، ووجه الدليل منه أنه أوقع الثلاث في كلمة واحدة ولم ينكره رسول الله ﷺ.
ثم استدل بقول الكرماني في قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ [البقرة: 229]: فيؤخذ منه جواز الطلاق بالثلاث بلفظ واحد، لكونه إذا جاز جمع الطلقتين دفعة واحدة جازت الثلاث).
فالجواب: أن فضيلة الكاتب يظهر من تعصبه لمذهبه بما نُشاهد من صرفه الكَلِم إلى غير المعنى المراد منه، فقد فسّر القرآنُ والسنةُ ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ بكونها تقع مرة في خلال العدة، وهي رحمة من الله لعباده، حيث لم يجعل الطلاق مرة واحدة، بل جعل له ميدانًا من السعة بمدة وضع الحمل، أو بحيضها ثلاث مرات، أو ببقائها في العدة ثلاثة أشهر في حق الآيسة والصغيرة، لِيتَروى المطلِّق في أمره وتذهب عنه ثورة الغضب والحنَق، ثم يعاوده عقله وفكرته في خلال هذه المدة، فيراجع زوجته بدون عقد ولا ولي ولا شهود، لكون الرَّجعية زوجية، بخلاف من يرى جواز وقوع الثلاث دفعة واحدة في مكان واحد، وتُسمى المبتوتة، فهؤلاء يبطلون حكم الله فيما شرع لعباده من التربُّص والتريث مدة بقاء العدة، ويحكمون بأنه لا نفقة لها ولا كسوة ولا سُكنى، فيجمعون لها بين الحشف وسوء الكيل والفراق السيئ لا التسريح بإحسان.
وقد أبعد الكاتب النجعة في استدلاله بطلاق عويمر العجلاني بعد وقوع اللعان، والله سبحانه شرع اللعان، وهو بينونة كبرى، ولم يذكر معه طلاقًا، وكذلك حديث سهل حيث قال عويمر العجلاني: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله. فطلّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله بطلاقها. وهذا الطلاق يعتبر فضوليًّا لكونه واقعًا في غير موقعه الصحيح، أشبه من يطلق امرأة ليست له بزوجة، وكفانا في بطلانه كون رسول الله ﷺ لم يأمره بالطلاق، وغاية ما استدل به الكاتب سكوت رسول الله ﷺ عنه.
وسكوته لا يدل على صواب طلاق عويمر، فقد كان رسول الله ﷺ يسكت دائمًا عن اللغو فلا يجيب صاحبه، بل يعرض عنه عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغۡوَ أَعۡرَضُواْ عَنۡهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعۡمَٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَٰلُكُمۡ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ لَا نَبۡتَغِي ٱلۡجَٰهِلِينَ ٥٥﴾ [القصص: 55] واللغو هو رديء الكلام، أشبه طلاق عويمر العجلاني لمن ليست له بزوجة، وقد كان اليهود يدخلون على رسول الله ﷺ ويقولون له: السَّامُ عليك. فيقول لهم: «وَعَلَيْكُمْ»، وقد فطنت عائشة لتحريفهم الكلم وكونهم يدعون على رسول الله ﷺ بالموت، فلم تستطع صبرًا على سوء قولهم، فقالت لهم: عليكم السَّام واللعنة، وقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟! فقال لها الرسول ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، هَلْ تَجِدِيْنِي فَحَّاشًا؟! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ»[361].
ومثله ما وقع لأبي بكر حين تحامل عليه رجل بسبه وذمه ورسول الله ﷺ ساكت لم يرد عليه، فلما طال سَبُّه رد عليه أبو بكر، فقام رسول الله ﷺ وهو متغيّر وجهه، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إن هذا أطال في سبي وأنا ساكت، فلما كلمته قمت وأثر الغضب على وجهك. فقال: «يا أبا بكر إنه مازال الملَك ينافح دونك لمّا كنت ساكتًا، فلما انتصرت لنفسك انصرف الملك، وانصرفت بانصرافه»[362].
فسكوت الرسول ﷺ عن جواب هذا لا يدل على صوابه في قوله ولا إقرار الرسول ﷺ لقوله وفعله، فاستدلال الكاتب بحديث عويمر العجلاني هو بعيد عن موضع الحُجة، فقد حصلت الفرقة الكبرى بمجرد اللعان، فكان طلاقه لاغيًا لا معنى له؛ ووضع البخاري ترجمته على هذا لا يدل على تصويبه لهذا الطلاق الواقع من عويمر العجلاني بعد ملاعنته لزوجته، إذ مدار الشريعة على الأمر والنهي لحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».[363]
ويدل له ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا». قال: يا رسول الله مالي. فقال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». فهذا حكم رسول الله ﷺ حيث حكم بالفرقة بعد اللعان وكونه لا سبيل للزوج عليها.
فالاستدلال بهذا الطلاق الواقع من عويمر بعد اللعان هو استدلال واقع في غير موقعه الصحيح.
ثم قال الكاتب: (إن الفرقة بنفس اللعان لا يدل عليها كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع). يريد بهذا استقامة احتجاجه بوقوع الطلاق بالثلاث من عويمر العجلاني.
فالجواب: أن النصوص الصحيحة الصريحة تثبت وقوع الفرقة بمجرد اللعان، كما سبق حديث ابن عمر بأنهما لما فرغا من تلاعنهما قال له رسول الله ﷺ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» فقال: يا رسول الله مالي. قال: «إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». وهو حديث متفق عليه.
كما أن القرآن لم يذكر مع اللعان طلاقًا، والسنة تفسر القرآن وتُبيِّن ما سكت عنه، وليس بعد هذا بيان. ثم إنه قد وقع الفراق بين الأزواج والزوجات بدون طلاق، كزوجة المرتد عن دين الإسلام، فإنها تطلق منه بدون طلاق ولا صيغة فراق، وكذلك المسلمات المهاجرات وأزواجهن باقون في الشرك، فانفسخ نكاحهن بمجرد إسلامهن بدون طلاق ولا فرقة، أشبه فسخ نكاح المتلاعنين، ومثله ما وقع في سبايا أوطاس اللائي كن مع أزواجهن، وبمجرد سبيهن انفسخ نكاحهن بدون طلاق. وقال رسول الله ﷺ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ، حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».[364] ولم يُحدِث لهن طلاقًا.
* * *
[360] وهي: (باب من جوز الطلاق الثلاث). [361] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [362] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة. [363] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [364] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري.