الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
قال الكاتب في قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] قال - أي الشيخ محمد أمين عفا الله عنه -: ذكر بعض العلماء أن هذه الآية الكريمة ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ الآية - يؤخذ منها وقوع الطلاق الثلاث في لفظ واحد. وأشار البخاري بقوله: (باب من جوّز الطلاق الثلاث) لقول الله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ والظاهر: أن وجه الدلالة المراد عند البخاري هو ما قاله الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ علمنا أن إحدى المرّتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث.
وردّ ابن حجر هذا بأنه قياس مع وجود الفارق؛ لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى، بخلاف الثلاث وجعل الآية دليلاً لنقيض ذلك. انتهى.
فالجواب: بدأ الكاتب بحثه بهذه الآية واستأنس لها بقول الكرماني في تفسيره أنها كما جاز وقوع الطلقتين جميعًا فكذلك وقوع الثلاث جميعًا، ولا دليل على ذلك والكرماني لا يحتج بقوله.
ويظهر من كلام الكاتب أن الطلاق من شرط صحته كونه ثلاثًا سواء كان مجتمعًا أو مفرقًا، كما أن هذا هو رأي كثير من الناس، وقد غلطوا في فهمه، فإن الطلاق يكون بواحدة متى أراد إبانتها وتسريحها، فمتى طلقها واحدة ثم تركها حتى تنقضي عدتها بغسلها من الحيضة الثالثة فإنها تبين منه وتحرم عليه إذا لم يراجعها في عدتها، فهذا هو طلاق السنة. قاله في المغني والمقنع، فإن طلقها الثانية في طهر لم يجامعها فيه ولم تكن حائضًا فإنها للسنة أيضًا.
وهاتان الطلقتان هما اللتان عناهما القرآن بقوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ فإن الزوج بعد هاتين المرتين يكون بالخيار بين الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ولما سئل النبي ﷺ عن هذه الآية قيل له: أين الثالثة؟ قال: «هِيَ التَّسْرِيحُ بإحْسَانٍ» لأنها من بعد غسلها من الحيضة الثالثة تَبين منه وتحرم عليه، لكنه لو ندم على فراقها جاز له أن يتزوجها بعقد جديد، لقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ﴾ [البقرة: 232].
لكنه لو طلقها الثالثة في العدة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، لقوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 230].
لكن الفقهاء يستحبون التحفظ بالثالثة لتكون له بمثابة الرصيد خشية أن يندم. والحاصل أن الطلقة بالواحدة تعمل عمل الطلاق بالثلاث في تسريح المرأة متى رغب في طلاقها، فلا حاجة للتكلُّف بجعل الثنتين كالثلاث، ثم إن القائلين بجواز إيقاع الثلاث جميعًا بلفظ واحد هم يخالفون صريح القرآن بجعلهم الطلاق مرة واحدة، ولم يجعلوه مرتين ولا ثلاثًا، ثم خالفوا صريح السنة حيث جعل النبي ﷺ الثلاث الواقعة جميعًا من أبي ركانة عن طلقة واحدة، وهي حجة قاطعة لموضع النزاع. وقد نص الفقهاء على أنه لو رمى الجمار السبع دفعة واحدة فإنها لا تقع إلا عن مرة واحدة، فتدخل الجمار كلها ضمن المرة الواحدة، ويلزم تكميل البقية من غيرها. وكذا يقال في الطلاق بالثلاث جميعًا وأنه لا يكون إلا عن طلقة واحدة. فقوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ يعني به الطلاق الشرعي الذي كان على عهد النبي ﷺ وأصحابه وعهد نزول القرآن، من أن أحدهم يطلق زوجته طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ثم تبتدئ المرأة في دخول العدة، فمتى حاضت الحيضة الأولى واغتسلت من حيضها طلقها الطلقة الثانية، وهاتان هما الطلقتان اللتان عناهما القرآن.
ثم هو قبل حيضتها الثالثة يفكر في أمره، فإن بدا له أن يراجعها راجعها، وإن حاضت الحيضة الثالثة فإنها تخرج من العدة وتبين منه.
وأما استدلال الشيخ، رحمه الله، حيث أخذ من مفهوم الآية قول الكرماني، أنه متى جاز طلاقها بطلقتين جاز بثلاث مجتمعة، فإن هذا بعيد عن مفهوم القرآن، كما أنه بنفسه يضعفه، لكنه استأنس بقول الكرماني من أنه تعالى لما قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ علمنا أن إحدى المرتين جمع فيها بين تطليقتين، وإذا جاز جمع التطليقتين دفعة جاز جمع الثلاث أيضًا.
فهذا الحكم قد وافق هوى الشيخ وتمشى على مذهبه، وكل الآيات المذكورة في أحكام الطلاق فإنها إنما تعني الطلاق المشروع، الذي يقع مرة بعد أخرى، فالجمع بين طلقتين في مكان واحد وفي طهر واحد وبلفظ واحد، هو بدعة وزيادة في الدين، وإنما يقع منه طلقة واحدة فقط في طهر لم يمسها فيه، بحيث إنه محجور عليه عن الزيادة على الطلقة في حالة الطهر الواحد، وتبقى رجعية، والرجعية لا يلحقها طلاق. ويدل له قوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ [البقرة: 228] والقرء: هو الحيض، مع كونه يُحمل على الطُّهر، فهو من ألفاظ الأضداد، ثم قال: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228] أي: في زمن العدة.
وهذا معنى قول ابن عباس: الطلاق عند أول كل طهر..
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد: إنه كان يفتي بلزوم الثلاث في بداية عمره، ثم رجع عنها، وقال: إني تدبّرت القرآن والسنة فلم أجد فيهما الطلاق إلا رجعيًّا.
ثم إن القائلين بلزوم الطلاق بالثلاث جميعًا يناقضون قوله سبحانه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] فمعنى (مرتين) أي مرة بعد أخرى، كل واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ولم تكن حائضًا. كما في قوله سبحانه: ﴿لِيَسۡتَٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ﴾ [النور: 58].
فهذه المرات الثلاث هي مفرقة في الأوقات المذكورة، ولا يمكن جمعها في زمان ولا مكان. فلو أن رجلاً وكل آخر على طلاق زوجته بالواحدة فطلقها ثلاثًا. أو وكله بأن يطلقها ثلاث مرات في ثلاثة أشهر، إحداهن في رجب، والثانية في شعبان، والثالثة في رمضان، فطلقها بالثلاث في رجب، أفلا يكون طلاقه غير واقع لمخالفة أمر موكله، وهذا بالإجماع. فما بالك بمخالفة الشخص لأمر الله سبحانه حيث طلق في طهر جامعها فيه أو وهي حائض، أفلا يكون هذا الطلاق باطلاً لمخالفة أمر الله ورسوله؟!
ثم إن القائلين بلزوم الثلاث جميعًا وكونها بينونة كبرى لا نفقة بعدها ولا سكنى ولا رجعة، هم يجعلون قوله سبحانه: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] لا معنى له، بل يجعلونه من حشو الكلام الذي ينزه عنه القرآن، فماذا يبقى مع المطلق بالثلاث من الإمساك بالمعروف، وقد غُلب على أمره بالحكم عليه بأنها بزعمهم بينونة كبرى لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره؟! ولا أمر ولا رأي لمُكرَه، مع مناقضتها لقوله سبحانه: ﴿إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]. أي في قُبل عدتهن، والعدة هي الطهر ﴿وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ﴾ [الطلاق: 1] أي: لا تزيدوا فيها ولا تنقصوا منها ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ﴾ [الطلاق: 1].
ثم إن هذه العدة التي أمر الله بإحصائها هي ثلاث حيض في حق من تحيض، لقوله سبحانه: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض، أو بوضع حملهن، أو ثلاثة أشهر في حق الآيسات من الحمل والصغيرات. كما في قوله سبحانه: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ﴾ [الطلاق: 4] فلو كانت العدة تسقط عن أحد لسقطت عن هؤلاء العجائز اللاتي لا يُرجى حملهن. وقال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَئَِّاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥ أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ﴾ [الطلاق: 4-6] والضمير في قوله: (أسكنوهن) يعود إلى أقرب المذكور وهن الآيسات من الحمل، فكما أوجب سبحانه النفقة والسكنى لذوات المحيض مدة عدتهن، وجاز للرجل إرجاع زوجته خلالها، فكذلك أوجب السكنى والنفقة والرجعة للآيسات من الحمل، وكون الزوج له الحق في رجعتها في أثناء عدتها؛ وهذه أحكام مشروعة ومفروضة كفرض الصلاة والصيام، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، وقد استوعبتها سورة الطلاق لأنها إنما نزلت بعد سورة البقرة التي قال الله فيها: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ [البقرة: 228] أي: ثلاث حيض. وبقيت عدة المتوفى عنها زوجها، وقد ذكرها الله بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ﴾ [البقرة:234] هذا إن لم تكن حاملاً، ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ﴾ [الطلاق: 4] سواء في ذلك المطلقة أو المتوفى عنها زوجها.
قال في المغني: ولو طلق رجل امرأته طلاق بدعة، كما لو طلقها في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، فإنه يستحب له رجعتها، وعنه - أي الإمام أحمد -: أنه يجب رجعتها.
وهذه العِدَد - على اختلاف أنواعها وبيان ما يترتب عليها من وجوب النفقة والسكنى وجواز الرجعة خلالها - كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرِّم شيئا من المحرمات إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ﴾ - وحدود الله محرماته - ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا ١﴾ [الطلاق: 1].
ويبقى عدة المختلعة بالمال وبمعناها المفسوخة، قد ثبت في البخاري من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت إلى النبي ﷺ قالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. وفي رواية: لا أطيقه بغضًا. فقال رسول اللهﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية: أمرها أن تعتد بحيضة. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المختلعات والمفسوخات يكفي إحداهن أن تعتد بحيضة واحدة، لكونه لا رجعة لأزواجهن عليهن. ويستفاد من هذا الحديث أن الطلاق المشروع يقع بطلقة واحدة، فتبين المرأة إذا لم يكن لزوجها فيها رغبة، فإن طلقها ثانية فإنها للسنة أيضًا، وفيما بين الطلقة الثانية إلى الاغتسال من الحيضة الثالثة يتفكر في نفسه، فإن بدا له أن يراجعها أشهد على رجعتها وتبقى عنده زوجة له كحالتها السابقة، وإن بدا له أن يفارقها فإنها تبين منه بغسلها من حيضتها الثالثة، وتسمى بينونة صغرى، بمعنى أنه لو ندم على فراقها فإنه يجوز له أن يتزوجها بعقد جديد، إلا إذا طلقها الثالثة فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ﴾ [البقرة: 230].
ثم إن المقلدين في حكمهم بإلزام الطلاق بالثلاث جميعًا وكونه بينونة كبرى، فإنهم بذلك يخالفون صريح القرآن في قوله: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ وفي الثالثة: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229] فهم يحكمون بجعل هذا الطلاق المفرق كالصادر عن مرة واحدة، فخالفوا بذلك صريح القرآن وصحيح السنة.
ودونك ما ذكره العلامة ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ قال: هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله على ثلاث طلقات، وأباح الرَّجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، قال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ [البقرة: 229].
قال أبو داود رحمه الله في سننه: باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث: عن عكرمة عن ابن عباس: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ﴾ [البقرة: 228] الآية، وذلك أن الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ الآية، وقال ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: إن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلكِ راجعتكِ. فأتت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره، ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته فقال: لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ﴾ قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلّق ومن لم يكن طلّق.
وروي عن عائشة أنها قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: لأتركنّكِ لا أيِّمًا ولا ذات زوج. فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا. فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ فوقت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره. واختار ابن جرير أن هذا تفسير هذه الآية وقوله: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردّها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتُها فتبين منك، وتطلق سراحها مُحسنًا إليها لا تظلمها من حقها شيئًا ولا تضارَّ بها.
وقال ابن أي حاتم عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: ﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ﴾ أين الثالثة؟ قال: «التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ الثَّالِثَةُ» ورواه الإمام أحمد أيضًا.
وذكر في تفسير المنار ما نصه:
صرّح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأن الطلاق الشرعي هو ما كان مرة بعد مرة وأن جمع الثنتين أو الثلاث بدعة وأنه حرام. وهذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة، وهم من علماء الصحابة.
قال الإمام: وهذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى، وهو الطلاق الرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، أما الطلاق البائن فلم يرد في كتاب الله.. انتهى.
وذكر العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: إن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وأن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده.
ثم قال: ليس المراد مجادلة المقلدين، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يُبالي بها، لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم وأئمة مذاهبهم دون كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الطلاق من مجموع الفتاوى المجلد الثالث والثلاثين ص 154، 155 ما نصه:
والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي. قال هؤلاء: وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلاً، بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي... ولو قال لامرأته: أنتِ طالق طلقة بائنة. لم يقع بها إلا طلقة رجعية، كما هو مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله. وهذا قول أهل الحديث، وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد.
* * *