(2) تحديد الصداق ومعارضة المرأة لعمر بن الخطاب في ذلك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فقد ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله على قوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١﴾ [النساء:20-21].
قال: أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأته ويستبدل بها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئًا ولو كان قنطارًا من المال.
قال: وفي هذه الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل.
قال: وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك، فروى الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين، قال: نبئت عن ابن أبي العجفاء السلمي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله، إنه ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة، وإن كان الرجل ليبتلى بصداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ثم ساقه من طريق أبي يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق، قال: ركب عمر منبر رسول الله ﷺ ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء، وقد كان رسول الله وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل.
وفي رواية: فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. قال: فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين أما سمعت الله يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ﴾ [النساء:21]؟ فقال: اللهم غفرًا، كل الناس أفقه من عمر. ثم ركب المنبر فقال: كنت نهيتكم عن الزيادة في صدقات النساء على أربعمائة فمن أحب أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي.
وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عن عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ﴾. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: «فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا». فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. ثم ساقها من طريق فيه انقطاع عن الزبير بن بكار.. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله. أما ابن جرير فإنه لم يتعرض في تفسير الآية لنهي عمر عن المغالاة ولا لاعتراض المرأة عليه، لكنه فسر هذا الإيتاء بالصداق. ثم إنه ساق بسنده إلى مجاهد في قوله:﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ﴾ أي طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحل له من مال المطلقة شيء ولو كان كثيرًا.. انتهى.
وهذا التفسير هو أرجح وأجمع ممن قصر الإيتاء على الصداق فقط، وخص استبدال الزوجة بأخرى جريًا على الأغلب، وإلا فإن مال امرأته الأولى حرام عليه، سواء طلقها أو استبقاها.
أما البغوي فقد ذكر في تفسيره للآية نهي عمر عن المغالاة في الصداق ولم يذكر شيئًا من اعتراض المرأة ولا غيره.
كما أن نهي عمر عن المغالاة قد ثبت من رواية الثقات الأثبات، فرواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي والبغوي وأبو داود الطيالسي وصححه ابن حبان والحاكم، كلهم بدون ذكر المرأة وبدون ذكر رجوع عمر عن رأيه فيه، إذ لو كان واقعًا صحيحًا لما أهمل المحدثون ذكره لاعتبار أنه بمثابة النسخ لقوله السابق.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على باب الصداق من البخاري قال: أصل قول عمر: لا تغالوا في صدقات النساء. هو عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم بدون ذكر المرأة.
وعلى كلا الحالين، فإن الاستدلال بهذه الآية على إباحة التوسع في المهور لا يصح لكون الآية وردت مورد الزجر في المبالغة عن أخذ شيء من مال المرأة سواء كانت مطلقة أو معلقة من كل ما ملكته من زوجها بطريق العطاء أو الصدقة أو الصداق، ولو كان قنطارًا، وفسر القنطار بملء مسك ثور، وفسر بألف ومائتي أوقية ذهبًا، وسواء ما آل إليها منه قبل النكاح أو بعده، إذا لم يقع منها ما يكون سببًا في الرجوع، من ارتكابها الفاحشة أو نفرتها عن الزوج بدون سبب يوجبه، فتفتدي منه برد ماله إليه في تخليص نفسها من عصمته، وهذا جائز بالكتاب والسنة. ثم إن هذا البحث في هذه القضية يتعلق به أمور لا بد من كشف إشكالها:
أحدها: صحة ثبات معارضة المرأة لعمر في تحديد الصداق.
الأمر الثاني: صحة ثبات رجوع عمر عن رأيه فيه واعترافه بخطئه في تحديده، وأمره الناس بأن يبقوا على حالتهم من التوسع فيه على حسب رغبتهم وإرادتهم.
فالجواب: أنه لو كان هذا الاعتراض منها صحيحًا أو أن رجوع عمر عن رأيه الأول صحيح، لما أهمل ذكره أهل الصحاح والسنن، ولم ينفرد أبو يعلى بذكره دونهم لاعتباره ناسخًا لرأيه الأول.
ولو كان رجوعه عن رأيه صحيحًا لما خفي على الصحابة رجالهم ونسائهم وقد خطب به على رؤوسهم، فلم يحفظ عن أحد منهم القول به مع العلم أن الحق معه، فقد نهى رسول الله ﷺ عن المغالاة وحث على المياسرة.
وقضية معارضة المرأة لعمر أول من أخرجها سعيد بن منصور عن هيثم عن مجالد عن الشعبي، وهيثم مدلس ومجالد ضعيف. وقال في التقريب: ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره... وأخذ العلماء ينقلون هذه القضية من واحد إلى آخر حتى تغلغلت في الأذهان وانتشرت في كل مكان.
وقد أخذ أبو يعلى بهذه الرواية الضعيفة، وهو إنما توفي عام سبع وثلاثمائة وانفرد بها عن جمهور المحدثين من أهل الصحاح والسنن، ودخل في روايته من الزيادات ما يستبعد وقوعها ولم نر من قال بها غيره، من ذلك قوله: إن عمر صعد منبر رسول الله ﷺ فنهى عن المغالاة في المهور، وبعد معارضة المرأة له وقولها: لِمَ تحرمنا شيئًا قد أباحه الله لنا؟ إن الله تعالى يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ﴾ [النساء: 20]. قال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته. ثم صعد المنبر مرة ثانية، فقال: كنت نهيتكم عن الزيادة في صدقات النساء على أربعمائة درهم، فمن أحب أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. انتهى.
فهذه الزيادات قد انفرد بها أبو يعلى عن أئمة الحديث مع زعمه أن كلا الأمرين وقعا من عمر في مكان واحد وفي زمان واحد. وقد خطب بها على منبر رسول الله بزعمه، فكيف يحفظ أهل السنن والصحاح نهيه عن المغالاة في المهور ويهملون ما يعد ناسخًا له؟! وقد أخذ العلامة ابن كثير برواية أبي يعلى وقوى سندها على ضعفها، قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الكثير.
ثم قال: وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عنه.
ثم ساق رواية عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك، إن الله تعالى يقول: ﴿وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ﴾ فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته، ثم ساقه عن طريق فيه انقطاع.
ثم إن عبد الرزاق ساق في مصنفه عدة طرق كلها تثبت نهي عمر عن المغالاة بدون ذكر المرأة وبدون ذكر رجوعه عن رأيه، فمنها ما روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن سيرين عن أبي العجفاء السلمي أن عمر قال: لا تغالوا في صداق النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي ﷺ، إنه ما أُصدقت امرأةٌ من بناته ولا من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل يغلي بالمرأة في صداقها فيكون حسرة في صدره، فيقول: كلفت إليك علق القربة.[301] قال الثوري: قوله: كلفت إليك علق القربة: أي تعلقت القربة في المفاوز إليك مخافة العطش.
ثم ساقه بسنده إلى عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء. وساق أثر عمر في نهيه عن المغالاة بتمامه بدون ذكر المرأة. وفيه قال: وكان عمر إذا نهى عن الشيء قال لأهله: إني قد نهيت عن كذا والناس ينظرون إليكم كما تنظر الحدأة إلى اللحم فإياكم وإياه.
ثم ساق بسنده عن عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد عن علي بن يحيى أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ خِيَارُ نِسَائِكُمْ أَفْضَلَهُنَّ صَدَاقًا، وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ كَانَ أَوْلَاهُنَّ بِذَلِكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ».
ولم يذكر معارضة المرأة لعمر في الطرق كلها، إلا أنه في آخر الباب من مصنفه ساق هذا الأثر الذي ذكره ابن كثير وليس فيه التصريح برجوع عمر عن نهيه عن المغالاة.
وبذلك يتبين أن أبا يعلى وحده قد انفرد بهذه الزيادة التي فيها أن عمر بعد اعتراض المرأة عليه صعد منبر رسول الله ﷺ مرة ثانية في الحال، ثم قرر رجوعه عن رأيه في نهيه عن المغالاة.
لهذا تعتبر روايته شاذة لمخالفتها لما هو أصح منها، فلا يعتمد عليها لكون الشاذ هو ما رواه المقبول مخالفًا لما هو أرجح منه، مع العلم أن استدلال المرأة بالآية أنه واقع في غير موقعه لظنها أن الآية مخصصة للتوسع في الصداق وليست كذلك، وكيف نصدق بأن عمر الفاروق الحازم في أمره والحكيم في رأيه، قد كسرت همته وفلّت عزمه هذه المرأة إلى حالة اعترافه بصوابها وخطئه، والحق معه، والنصوص الصحيحة تؤيده والنفوس من جميع الناس مفطورة على استحسان رأيه في التساهل في مؤن النكاح وكراهة المغالاة. وقد أشار إلى بعض مساوئ ما يجره التغالي في المهور:
فقال: أولاً: إنه ليس بمكرمة في الدنيا ولا تقوى عند الله. وكل ما ليس بمكرمة فإنه رذيلة.
والثاني قوله: إن الناس ينظرون إليكم نظرة الحدأة إلى اللحم: يشير إلى أن الناس يقتدون بكم في المغالاة فيه فيعم الضرر على الرجال المقلّين والمتوسطين، ويكون ضرره على النساء أكثر لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في العادات النافعة والعادات الضارة، مما يجعل النساء العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن بدون زوج يؤنسهن ولا نسل يرثهن، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات سنة بعد سنة، وكأن مثار تحديد الصداق لسبب اقتضاه.
وذلك أن عمر كان يمشي بالطريق بالليل فرأى دواب تحمل مالاً، فقال: ما هذا المال؟ قالوا: هذا صداق مصعب بن الزبير على عائشة بنت طلحة. فقال: هذا المال الكثير؟! قالوا: نعم. وذكر ابن كثير في التاريخ أنه أصدقها مائة ألف دينار[302]، وهو قدر كثير في زماننا الذي قاءت فيه الأرض أفلاذ كنوزها، فما بالك بزمان الصحابة الذي فيه النقود قليلة الوجود، فرأى عمر أن مصعب بن الزبير سلك مسلك الإسراف على نفسه وفي ماله مما يخشى أن يقتدي به غيره، لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في العادات الضارة والنافعة والبادي بالشر أظلم، لهذا خطب عمر الناس وقال: لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله ﷺ، إنه ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي والبغوي وأبو داود الطيالسي، كلهم بدون ذكر المرأة.
أفيهدم هذا الصرح الذي بناه عمر لإصلاح جميع الناس رجالهم ونسائهم بدعوى هذه المرأة المجهولة؟! والذي لم يشهد أحد من الصحابة بقول عمر لها، واعترافه بخطئه، ولم يثبت عن أحد منهم ذكر ذلك، فلو كان واقعًا لما أهملوا ذكره، إذ هو بمثابة الناسخ لقوله، ويبعد عنهم أن يحفظوا المنسوخ ويضيعوا الناسخ، وقد اعترضت بما يعد بعيدًا عن قصد عمر وإرادته، ولو فرضنا صحته فإننا لا نقبله ولا نستقيله عن رأيه السديد وأمره المفيد.
والثالث: أنه أشار إلى مساوئ المغالاة في المهور، فقال: إن كان الرجل ليبتلى بصداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه. يشير عمر رضي الله عنه إلى بعض أجناس من الناس الرذلاء الذين يعدون بناتهم بمثابة المتاجر، فمتى خطب أحد منهم ابنته أو موليته أخذ يسن له السكين ليفصل ما بين لحمه وعظمه، بحيث يفضي إلى زوجته وهو عظم بلا لحم وجسم بلا روح، كله من أجل التكاليف الشاقة والتطلبات المرهقة التي تلجئه إلى تحمل الديون والتي من لوازمها الهموم والغموم من كل ما يقضي بانصراف رغبته وعدم فرحه بزوجته، لكون الهموم والغموم عقوبات تتوالى ونار في القلب تتلظى، لا تزال تنفخ في الجسم حتى تجعل القوي ضعيفًا والسمين نحيفًا، كما قيل:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
إن من رأي الحزم وفعل أولي العزم تكاتف العقلاء على مراعاة التسهيل والتيسير وعدم التعسير، فإن التيسير يمن وبركة، فيسروا ولا تعسروا.
وإن النكاح الشرعي من سنن المرسلين ومن ضروريات بقاء حياة الآدميين، وإنه السبب في إيجاد المال والبنين، وقد أمر الله بإنكاح الأيامى في كتابه المبين، فقال تعالى: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ٣٢﴾ [النور: 32]، والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، يقال: رجل أيم وامرأة أيمة، فأمر الله عباده بأن ينكحوا الأيامى، ولا ينبغي أن يستنكفوا عن إجابة الخاطب بما يحسونه من فقره، فإن الفقر وصف عارض يقع فيزول، فكم فقير عاد بعد الزواج غنيًّا. فمتى كان الأمر كذلك، فإن من الواجب على العقلاء فتح أبوابه وتسهيل طرقه وأسبابه، وذلك بالقضاء على التطلبات المرهقة والتكاليف الشاقة التي هي بمثابة العقبة الكؤود في طريق المعوزين والمتوسطين من أبناء المسلمين، بحيث تحول بينهم وبين من يرغبون نكاحه من بنات عمهم وأهل بلدهم.
ويجب على العقلاء أن يعقدوا الاجتماعات على إثر الاجتماعات لتبادل الآراء النافعة في سبيل ما يختصر لهم الطريق ويزيل عن شبابهم الحرج والضيق، وذلك بتخفيف مؤن تكاليف النكاح التي يذهب أكثرها في سبيل الإسراف والتبذير والتوسع في الهدايا وسوء التدبير، فيكون خسارة على الزوج وعلى أهل الزوجة.
والمرأة حرة وليست بسلعة توضع للمزايدة، والنبي ﷺ قال: «خير النكاح أيسره، وخير النكاح أقله كلفة»[303] وإنما تقاطع الناس بالتكلف.
وإن الفضلاء من الكرماء لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل رغبة أحدهم هو اختيار الكفء لموليته ليضع أمانته عنده ويتصل حبله بحبل مخطوبته في راحة ورفاهية، فهم يحاربون الإسراف الضار بالزوج وأهل الزوجة ولا يستنكف أحدهم عن خطبة الرجل الكفء لابنته أو موليته، كما عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على عثمان بن عفان، فاعتذر بعدم رغبته في النكاح، ثم عرضها على أبي بكر، فسكت، ثم خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها، واعتذر أبو بكر بأن رسول الله ﷺ قد ذكرها، قال: فما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ.
إن التطلبات المرهقة قد تركت البنات العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة جريمة التكاليف الشاقة والتعاظم وعدم التواضع، يخطب الخاطب فيقولون: هذا ليس بتاجر، ثم يخطب الآخر فيقولون: هذا مرتبه ليس بكثير، ثم يخطب آخر فيقولون: هذا لا يدفع لنا إلا قليلاً، فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا الترديد والتلديد، والنبي ﷺ قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِنْ لَا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[304].
والله إنه ليبلغنا عن الرجل الكريم وصاحب الخلق القويم معاملة صهره بالتسامح والتسهيل، حيث أخذه باليد التي لا توجعه، ثم سلم له زوجته في حالة راحة وعدم كلفة فيرتفع في نفوسنا قدره وينتشر بين الناس شرفه وفخره، لأن هذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة.
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في نهيه عن المغالاة في المهور، ينظر بفراسته إلى الأجيال البعيدة المقبلة كنظره إلى الأجيال الحاضرة، وقد وقع محظور ما نهى عنه في زماننا هذا، حيث آل بالكثير من شباب المسلمين إلى التزوج بالأجنبيات الوثنيات وبالنساء العربيات الملحدات اللاتي لا دين لهن ولا خلق، واللاتي يتظاهرن بترك الصيام والصلاة ويجهرن بعدم وجوب شيء من العبادات، ومن المعلوم أن نكاح مثلهن حرام على المسلم، ﴿لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ﴾ [الممتحنة: 10]، كما أن تزويج المرأة المسلمة بمن يستبيح ترك الصلاة والصيام لا ينعقد نكاحه بها أصلاً، بل تبقى معه كشبه الزانية، قال تعالى: ﴿مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ﴾ [المائدة: 5].
* * *
[301] عِلْق القربة أي: كلفتُ كل شيء من أجلك حتى عِلْق القرابة، أي: حبلها الذي تعلق به، ويروى: عرق القربة، أي: حتى عرقت كعرق القربة وهو الماء الذي يسيل عليها من الخارج، أو حتى عرقت كعرق من يحمل القربة، وقيل المراد: حتى كلفت المستحيل. [302] ذكرها في ترجمة مصعب بن الزبير. [303] أخرجه أبو داود من حديث عمر بن الخطاب. [304] رواه الدارمي من حديث أبي هريرة.