وليمة العرس
إن نهي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن المغالاة في المهور يشمل النهي عن المغالاة في سائر مؤن النكاح، إذ الاقتصاد خير كله، فهو يحب أن يبقى نشاط الشخص المتزوج لراحته وراحة أهله فلا يكلف نفسه ما يشق عليه، ومن ذلك وليمة العرس، فإن كلامه يشمل مراعاة الاقتصاد والاقتصار فيها، وقد وصفها رسول الله ﷺ بأنها شر الطعام، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، فينبغي اجتناب التوسع فيها، ويقتصرون على قدر الكفاية عملاً بالسنة، لما في الصحيح أن النبي ﷺ رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «مَا هَذَا؟» قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال رسول الله ﷺ: «بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» فقوله: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» قيل: للتكثير. وقيل: للتقليل.
وقد أولم النبي ﷺ على بعض نسائه بمدين من شعير وهو سيد الخلق أجمعين.
فما يفعله بعض الناس من كون أحدهم يذبح في وليمة العرس خمسين ذبيحة وأربعين وثلاثين وربما ذبح معها بكرًا من الإبل ويتبعها الأرز والفواكه، وغالب الناس يعتذرون عن الحضور إليها وخاصة الفضلاء فتبقى اللحوم والطعام بحالها ويضيق بها ذرعًا أهلها حتى تحمل ويقذف بها في موضع القمامة وبطون الأنعام ونفوس الكثير من الناس تحن إلى القدر.
ولا شك أن هذا مال ضائع على الزوج وعلى أهل الزوجة، كما قيل:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع
فهذه التكاليف التي بعضها أكبر من بعض قد أفضت بشباب المسلمين وبالشابات إلى بقائهم محجمين عن الزواج مع حاجة كل واحد منهم إلى ذلك، ولو وكل الأمر إليهم وأخذت رغبتهم واختيارهم لعملوا عملهم في التسهيل بكل سبيل والله أعلم.
والصحيح أن الآية شاملة لنهي الرجل عن الرجوع فيما ملكته زوجته عن طريقه من العطايا والصداق وغير ذلك، ثم على فرض صحة قوله: أصابت امرأة وأخطأ عمر، فإن هذا خرج منه مخرج الأدب مع الآية والتواضع مع المرأة، إذ مدلول الآية صريح وأنه يحرم على الرجل أن يأخذ من مال امرأته شيئًا مما أعطاها، فهو مع نهيه عن المغالاة يبيح لكل شخص بعد دخوله بزوجته أن يعطيها من ماله ما يشاء ولو كان كثيرًا.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أصل قول عمر: لا تغالوا في صدقات النساء. هو عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، وليس فيه قصة المرأة، انتهى.
وعلى كل حال، فإن الآية ليست مؤسسة لجواز التوسع في صدقات النساء كما أنها ليست مخصصة للرجوع فيما بذله لها من الصداق فقط، بل هي شاملة لسائر ما أعطى زوجته عن طيب نفس منه، سواء كان في صلب العقد بما يسمى صداقًا أو بعد الدخول، فكل مال آل إليها من زوجها بطريق الصداق أو العطاء فملكته ملكًا تامًّا، فإنه لا يجوز له الرجوع فيه، لقوله تعالى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠ وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٢١﴾ [النساء: 20-21]، وخص النهي بالاستبدال بها غيرها، جريًا على الأغلب، وإلا فإن النهي شامل، سواء استدام بقاءها أو أراد فراقها.
وفسر الإفضاء بالجماع، والميثاق الغليظ بما يؤخذ على الزوج عند العقد، من الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ولا شك أن من أوقع الطلاق على زوجته بدون سبب يوجبه منها من ارتكابها الفاحشة أو نفرتها عن زوجها، ثم تعدى عليها بأخذ مالها، فإنه يعتبر عاصيًا مخالفًا لنظام الرب وللعدل والمروءة، وقد سرحها بحالة الإساءة لا الإحسان، حيث جمع لها بين ألم فراقه وألم أخذ مالها، وإنما خص الزوجة بالذكر لكثرة وقوع ذلك من الجُفَاةِ الظَّلَمَة، متى أراد أحدهم أن يتزوج امرأة أخرى غيرها، أخذ يضار امرأته الأولى لتفتدي منه برد ماله إليه.
نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيًۡٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ﴾ [البقرة: 229].
ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ﴾ [البقرة: 231].
وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ﴾ [النساء: 19].
وروى البخاري، قال: كانوا إذا توفي الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته. إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها. وروى أبو داود عن ابن عباس في الآية أن الرجل كان يرث امرأة من قرابته، أو يعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها.
قال ابن جرير في التفسير[305] بعد أن ذكر أقوال السلف في الآية، قال: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب؛ لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق، إذ من المعلوم أن الوليَّ ليس ممن أتاها شيئًا فيعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، فكان معلومًا أن الذي عنى الله بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه... انتهى.
فكل هذه الآيات سيقت مساق ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠﴾ [النساء: 20].
فكلها من النظائر التي يؤكد بعضها بعضًا، وتنهى أشد النهي عن ظلم المرأة بأخذ شيء من مالها من كل ما ملكته من زوجها بطريق الصداق أو العطاء لدخوله في عموم قوله ﷺ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[306] وقوله: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[307].
لكن متى ملكت شيئًا من ماله عن غير رضى ولا طيب نفس منه، كأن تسخط عليه بدون سبب يوجبه منه ما عدا أنه تزوج عليها، ثم تفرض عليه ألا ترضى عليه ولا تعود إليه إلا بشيء تفرضه من المال، كبيت وغيره، فيوافق على ذلك حيث يرى أنه لا سبيل إلى رضاها إلا به فيكتب لها عليه. فهذا مما يجوز له الرجوع فيه لبطلان العطاء من أصله في بدايته لخروجه بدون رضى منه، والنبي ﷺ قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».
أما العطاء الخارج منه إليها بطريق الرضا والاختيار وقد تم تملكها له، فإنه لا رجوع له فيه ولو كان كثيرًا.
وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» وللبخاري: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» قال قتادة: ولا أرى القيء إلا حرامًا.
وعن ابن عمر وابن عباس أن النبي ﷺ قال: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
وفي الصحيحين في قصة المتلاعنين، لما فرّق النبي ﷺ بينهما، فقال الرجل: مالي يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: «إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كنتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا».
وحتى العُمْرى[308] والرُّقْبى[309] فقد حكم بها رسول الله ﷺ لمن أعمرها ولن تعود إلى مالكها، والعمرى: هي أن يقول: لك هي حياة عمرك أو عمري، أو حياة رقبتك أو رقبتي.
ففي البخاري عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ».
ولمسلم، قال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّتِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ».
فكل هذه الأشياء بعد قبضها هي من الإيتاء الذي لا يحل للزوج ولا لغيره الرجوع فيه بأخذ شيء لشمول الآيات والأحاديث للنهي عنه.
يبقى الكلام في التوازن بين رأي عمر في تحديد الصداق وتخفيفه وبين معارضة المرأة له في إطلاق سراحه على حالة التوسع فيه، فنقول: إنه بمقتضى العقل والنقل والحس والمشاهدة أن التغالي في المهور شؤم على كافة الجمهور، وضرره على النساء أكبر، وقد أشار عمر في نهيه عن المغالاة بأنه يورث البغضاء في قلب الرجل لامرأته، سواء كان حالًّا أو دينًا في ذمته، وقد استعمل أكثر أهل الأمصار تكثير الغالب في الصداق في ذمته مع التساهل في الحالّ ليقيدوا به الرجل عن التسرع إلى طلاق امرأته، بحيث يذكر إغرامه بمطالبته بالصداق المؤخر عند حلوله، فيمتنع عن التسرع في طلاقها، كما قيل:
مهر الفتاة إذا غلا صون لها
عن أن يبت عشيرُها تطليقَها
هوِيَ الفراق وخاف من إغرامه
فأدام في أسبابه تعليقها
ولربما ورثته أو سبقت بها
أقدار ميتتها فكان طليقها[310]
إن التغالي في المهور قد صار عقبة كؤودًا في سبيل المعوزين والمتوسطين من الناس، بحيث يحول بينهم وبين من يرغبون نكاحه من بنات عمهم وأهل بلدهم، كما أنه صار شؤمًا شرًّا على بنات الأسر والأكابر وأهل البيوت الفاضلة، وأن كل امرأة تتعاظم في نفسها وتفتخر بجمالها أو نسبها أو مالها، فإنها تبقى عاطلة عن الزواج مع تمنيها له، بخلاف المرأة المتواضعة المتذللة، فإن الناس يتسابقون إلى خطبتها لسهولة الحصول عليها بدون كلفة، وبدوام استمراره يصير من أسباب قلة الزواج، وتبقى الأبكار العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن يأكلن شبابهن وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة، والجريمة هي جريمة التكاليف الشاقة، حيث يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به، وقلة الزواج تفضي إلى كثرة الزنا والفساد، فنحن نشك في رجوع عمر عن رأيه في تخفيفه، كما نشك في تصريحه بخطئه وتصويب رأي المرأة في معارضته، لورود الأحاديث الصحيحة في الصحاح والسنن والمسانيد، مما يدل على نهيه عن المغالاة بشدة بدون ذكر رجوعه عن رأيه، كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري في باب الصداق.
ومن المعلوم أن معارضة المرأة لعمر قد اشتهرت وانتشرت وعم العلم بها جميع مشارق الأرض ومغاربها، فلا تجد عالمًا ولا عاميًّا إلا ويحفظها، فكانت من الضعيف المشهور، وقد استدل بها بعض العلماء على جواز التوسع في المهور أخذًا من مفهوم الآية، ولا دليل فيها على ذلك.
فنحن نتكلم عليها بناء على فرض صحتها، ونقول: إن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المضار وتقليلها، ويظهر لنا بمقتضى الدلائل العقلية والنقلية أن عمر على جانب من الصواب في رأيه ونظره، وأنه أسعد بإصابة الحق من المرأة، وأن اعتراضها عليه يعتبر بأنه واقع في غير موقعه، وهذا مما يجعلنا نستبعد رجوعه عن رأيه، إذ الأصل معه وعموم الأدلة تتبعه، والذي جعل القضية تشتهر هو نسبة تواضعه للمرأة، وإلا فإن الأحاديث متواترة في الأمر بتخفيف الصداق كما قدمنا، فقد روى مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ، قال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: «على كم تزوجتها؟» قال: على أربع أواق. فقال له النبي ﷺ: «كأنما تنحتون الفضة من عرض الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث فتصيب منه».
وروى عقبة بن عامر أن النبي ﷺ قال: «خير النكاح أيسره مؤنة» رواه أحمد، وعن عائشة بمعناه.
ثم إن جميع العقلاء قاطبة متفقون على استحسان تخفيف مؤن النكاح لشمول نفعها لجميع الرجال والنساء، وإن التقليل في المهر وفي سائر مؤن النكاح مندوب إليه، لأن المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب الزواج على الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير متزوجين، أما إذا كان المهر كثيرًا فإنه لا يتمكن من الزواج إلا أرباب الأموال الكثيرة ويكون الضرر فيه على النساء أكثر، إذ قد يؤول بهن إلى سوء الحالة فيقعن في رد الفعل فتصير النساء هن اللاتي يعطين المهور للرجال ليتزوجوهن، كما هي عادة النصارى، وقد حذر النبي ﷺ من عاقبة هذا الفعل، فقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتَنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.
ولهذا لم يجعل النبي ﷺ لأقله حدًّا محدودًا، بل أجازه بنعلين، وبخاتم من حديد، وبوزن نواة من ذهب، وبتعليم شيء من القرآن، ومن أعطى ملء كفيه من طعام فقد استحل، فليس هو من أمور العبادات، كالصيام والصلاة التي يجب التوقيف فيها، فلا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل هو من أمور الحياة الموكول تنظيمها إلى اجتهاد أهل العقول والمعرفة، كبناء البيوت وغيرها.
فمتى رأى الحاكم تحديد الصداق بقدر معلوم يتلاءم مع مصلحة جميع الناس غنيهم وفقيرهم، فإنه جائز قطعًا بلا شك، وليس في الشرع ما يمنعه، إذ هو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع كما في الحديث: «يَسِّرُوا، وَلَا تُعَسِّرُوا»[311].
ويجب طاعة ولي الأمر في ذلك وعدم مخالفته، إذ إن طاعته في هذا تعتبر من طاعة الله ورسوله، ومعصيته تعتبر من معصية الله ورسوله، وتدخل في عموم قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ [النساء: 59].
ورأيُ عمر في النهي عن المغالاة بتحديد الصداق لا يمنع من كون الرجل يتبرع لزوجته بشيء من ماله قليلاً كان أو كثيرًا متى دخل بها، إذ له التصرف التام في العطاء والمنع.
وقد فعل عمر والصحابة شيئًا من أمور الحياة مما تقتضيه المصلحة العامة، فصارت سنة متبعة، من ذلك عتق أمهات الأولاد وكن يُبعن زمن النبي ﷺ.
فعن ابن عمر قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد، قال: لا تباع ولا توهب ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة. رواه مالك والبيهقي.
وكان سبب هذا ما أخرجه الحاكم وابن المنذر عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة، فقال: يا بريدة انظر ما هذا الصوت. فذهب ثم رجع فقال: هذا صوت جارية من قريش تباع أمها. فقال: ادع لي المهاجرين والأنصار. فدعوتهم له، فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة منهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فهل كان فيما جاء به محمد ﷺ القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢﴾ [محمد: 22] ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم، وقد أوسع الله لكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق: أن لا تباع أم حر. وقد انعقد الإجماع على المنع من بيعهن، فلم يبق فيه مخالف.
ومنها منعُه الصحابة عن الانتقال عن المدينة وسكناهم الشام أو العراق، لتقوى بيضة الإسلام في المدينة، فلم ينتقلوا إلا في خلافة عثمان.
ومن ذلك التسعير في حالة الحاجة والضرورة ومراعاة عموم المصلحة، متى زادت قيم الطعام على الناس زيادة غير معتادة وكان الطعام أو السلع ترد على أشخاص معينين، بحيث يستطيعون أن يتحكموا في أثمانها فوق القيمة المعتادة، فقد قال بعض العلماء بجواز التسعير عليهم، وبعضهم قال بوجوب التسعير والحالة هذه، وأول من نسب عنه هذا الأمر هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يمر بالبياع ويقول: إما أن تبيع كما يبيع الناس أو ترتفع عن سوقنا. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الحسبة (ص240): إن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس بأن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق، ويدل له ما روى أنس، قال: غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله ﷺ فقالوا: سعّر لنا يا رسول الله؟ فقال: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ» رواه أبو داود والترمذي.
وإما أن يمتنع أرباب السلع من بيعها إلا بزيادة على القيمة المعروفة والناس في حالة الحاجة والضرورة، أو أن يكون هذا الطعام وغيره لا يبيعه إلا ناس معروفون، فيجب التسعير عليهم، بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل.. انتهى.
فتحديد المهور والقول بجوازه يتمشى على القول بجواز تسعير الطعام، إذ إنه لا يقل في الضرر عنه.
وهذه كلها من التصرفات الجائزة المتعلقة بأمور الحياة، ولا علاقة لها بالعبادات.
ومنها نهيه عن التزوج بالكتابيات: نصرانيات أو يهوديات. وروى الإمام محمد ابن الحسن أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية في المدائن، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن خلّ سبيلها. فكتب إليه حذيفة: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا من يدك حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.
وهذا من حسن نظره لرعيته، وهو الحكيم في سياسته وسيادته وحسن تربيته لرعيته، فإنه لو فتح هذا الباب للشباب لاختاروا نكاحهن على نساء المسلمات ﴿مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ﴾ [النساء: 25] لكون الشباب ينظرون بعين شهواتهم، فيفضلون القبيح على الحسن. وإلا فإن النساء العربيات المسلمات هن أفضل منهن دلًّا وأدبًا وجمالاً وخلقًا، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.
ومن سوء عاقبة هذا الاستحسان ما أفادته التجارب من سوء العواقب، وأن أولاد النصرانية من المسلم يكونون نصارى محضًا، بحيث ينشؤون على عقيدة أمهم ويسلكون طريقتها حسب تربيتها لهم، لكون الغاذي شبيه بالمغتذي فيقولون بألوهية المسيح ويعلقون الصلبان على صدورهم، وهذا أمر مشهور مشهود به في مصر ولبنان والعراق وغيرها.
إنه متى تيسر قِران الشخص بامرأة ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة وكرامة وافرة، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة؛ التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[312].
فمن واجب شكر هذه النعمة معاشرة هذه الزوجة بكرم الأخلاق وجميل الوفاق. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» قال: «وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».[313]
لاسيما المرأة ذات الحسب والدين، فإنها خير ما يخزنه المسلم في حياته وفي بيته، لكونها تربي بناتها على الأخلاق الحسنة والدين.
فالمرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم والسيد المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات.
كما أن الزوج كرامة ونعمة للمرأة، يرفع مستوى ضعفها وينشر جناح وحدتها ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسعيدة عشيرة وأم بنين وبنات، وقد ذكّر الله عباده بهذه النعمة، فقال: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١﴾ [الروم: 21].
فقد يجعل الله سبحانه المودة في الرجل ولا يجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق الجفاة، يحب أحدهم زوجته لكنه يعاملها معاملة المبغض من الضرب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وقد يكلفها أعمالاً شاقة ويضيق عليها في النفقة الواجبة حتى تلجئها الحاجة وسوء الحالة إلى طلب النفقة والكسوة من أهلها، وقد يتزوج عليها فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة.
وهؤلاء يعتبرون من أراذل الناس الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ولا وفاق.
وقد يجعل الله الرحمة في الشخص ولا يجعل فيه المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاشرها بكرم الأخلاق وجميل الوفاق وبالعطف واللطف والإنفاق. وأصفى السرور اجتماع المودة والرحمة، وبذلك تتم السعادة الزوجية بينهما.
إن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وإن الكمال التام متعذر من رجل وامرأة، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص بحسبه، غير أن الناس يتعاشرون بالشرف، وتندر البيوت المبنية على المحبة.
فقد يوجد في المرأة شيء من التقصير، إما في الحال أو في الجمال أو عدم التدبير، كما في الحديث: «لا يفرك مؤمن مؤمنة - أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة - إن كره منها خلقًا رضي منها آخر»[314] فالرجل الكريم وصاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فأنجبت له أولادًا كرامًا، قاموا بنفعه ونشروا فخر ذكره، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وكم من رجل فُتن بمحبة امرأة فأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله وخلقه ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ﴾ [البقرة: 216]. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ﴾ [التغابن: 14] والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 11 رمضان سنة 1396هـ.
* * *
[305] تفسير ابن جرير جـ8/113. [306] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة. [307] أخرجه أحمد من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه. [308] العُمْرى: هبة شيء مدة عمر الموهوب - أو الواهب - بشرط الاسترداد بعد موت الموهوب له. [309] الرُّقْبي: هو أن يقول الرجل للرجل - وقد وهب له دارًا -: إن متَّ قبلي رجعَتْ إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك. [310] من شعر أبي العلاء المعري. [311] متفق عليه من حديث أنس. [312] أخرجه عبد الرزاق في الجامع عن معمر مرسلاً من حديث مجاهد. [313] أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي هريرة. [314] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.