متقدم

فهرس الكتاب

 

(1) حكمة إباحة تعدد الزوجات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شاف شامل، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في مجتمعهم وفيما بين أهلهم وعيالهم بالحكمة ومراعاة المصلحة والعدل والإحسان، مبني على جلب المصالح ودفع المضار، فهو عدل الله في أرضه، ورحمته لجميع عباده. يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107] فهو دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، قد نسخ جميع الشرائع ورفع الآصار والأغلال وأباح للناس الطيبات من الحلال، ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ [الأعراف: 32].

فلا يشرع شيئًا من الأعمال والمباحات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

فهو دين الكمال والنظام، وشريعته منزلة على جلب المصالح ودفع المضار، غير أن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان. فهم ينكرون كل ما ليس معروفًا عندهم، وما ليس بمعهود في بلدهم، فينكرون حكم الله في القصاص، وفي قطع يد السارق وإقامة الحدود الشرعية على الجناة لتقليل الجرائم، ومنه إنكارهم لتعدد الزوجات ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ٧١ [المؤمنون: 71].

لكنهم عندما يبلون بالكوارث وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقة وهتك الأعراض وكثرة النساء الأيامى اللائي ليس لهن أزواج، فعند ذلك يندبون الإسلام ويقولون: سلام الله على شريعة الإسلام التي تحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على أيدي الجناة، وحتى إباحة تعدد الزوجات فقد رجع بعض عقلائهم إلى استحسانه بعد إنكارهم له، لأنهم في هذه الأزمان لما انتبهوا لمصالح نسائهم ورأوا البنات يجلن في الأسواق كالقطعان من الغنم كلهن أو أكثرهن أيامى ليس لهن أزواج، أخذوا يدعون قومهم وينادون بإباحة التعدد بين الزوجات، إذ هو خير من بقاء البنات أيامى طول الحياة.

ومثله الطلاق فقد كانوا ينحون بالملام على الإسلام في مشروعية الطلاق، وعندما رأوا كثرة البغاء وعزوف الرجال عن الزواج الشرعي فرارًا من مسؤوليته، ولأن القانون لا يمكنه من طلاقها متى ساءت العشرة بينهما فصاروا يفضلون التمتع بالمرأة على سبيل السفاح. فلأجله اضطروا إلى الرجوع إلى شريعة الإسلام فصاروا يوقعون الطلاق على أدنى سبب، فتوسعوا في الإسراف فيه، وصار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها، ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة إلى العمل بشريعة الإسلام، لأنها شريعة للناس أجمعين ورحمة للعالمين. فيعودون يعترفون للإسلام بفضله بعد أن شبعوا من ثلبه، فهم وإن لم يطبقوا العمل به لكنهم يعترفون بصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان.

ولا يزال الناس يحتاجون بداعي الضرورة إلى الرجوع إليه في المشاكل العظام، لاسيما عند ظهور الفتن في آخر الزمان التي تقضي بفناء الرجال، وناهيك بمفاسد فتنة لبنان وكيف قضت بحصاد عشرات الألوف أو مئات الألوف من الرجال من سوى الجلاء الذي يؤول بهم إلى الفناء مع قضائها على مشيد المنازل والعمران والفنادق والقصور العظام والنهب والقتل وهتك الأعراض. وهذه الحروب هي مصداق ما أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان حيث قال: «تظهر الفتن ويقل العلم ويثبت الجهل ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لأحدثنكم حديثًا لا يحدثكم به أحد بعدي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ».

إن الإسلام يجمع بين مصالح الدنيا والدين وبين مصالح الروح والجسد ليس بحرج ولا أغلال ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة والتمتع بأنواع الزينة المباحة. يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ قُلۡ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا خَالِصَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ [الأعراف: 32] والنساء هن من أفضل زينة الدنيا ومن أفخر اللذائذ. يقول الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ [آل‌عمران: 14] والمزيِّن هو الله. والنبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس.

واقتضت حكمة الباري سبحانه أن يكون الرجل مستعدًّا للنسل ولو بلغ ثمانين سنة، وأن المرأة إذا بلغت الخمسين من عمرها يئست من الحمل والحيض وقيل: خمسًا وخمسين. ومن نظر بعين الاعتبار إلى التباين بين الرجل والمرأة يجد المرأة أكثر شغلاً وتعبًا من الرجل في الحياة المنزلية لقيامها بأعباء الحمل والولادة والرضاع وتربية الأولاد وشغل البيت من إصلاح الطعام وغيره من المتاعب التي تقتضي الحط من قوتها وصحتها حتى قيل: إنه لن ينبت عمر إلا وقد أكل عمرًا. أضف إلى ذلك أنها قد تكون عاقرًا وزوجها يحب أن تكون له ذرية، وقد تصاب بمرض معد يقتضي بعدها عن زوجها وبعده عنها زمانًا طويلاً.

لهذا صار الرجل في الإسلام يجوز له الجمع بين المرأتين والثلاث متى علم من نفسه القدرة على القيام عليهن بالعدل، لما في ذلك من العون على العفاف وتكثير النسل المطلوب شرعًا وعرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، وحتى يكون المسلمون بكثرة نسلهم أكثر عددًا من عدوهم فيظهر بذلك فضلهم وعظمتهم أمام عدوهم كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦ [الإسراء: 6] فكثرة المسلمين خير من قلتهم مع ما فيه من حفظ النوع الإنساني الذي يترتب عليه عمار الكون في الدنيا.

والتعدد فيه محاسن ومساوئ، فبعض الخواص من الناس قد شارك في موضوع التعدد لسبب يقتضيه، لكنه دخل فيه بعدل واعتدال وحسن سيرة وسياسة في الأهل والعيال فصار قرير العين به سليمًا من الأنكاد والأكدار، وذلك ببركة العدل بين الزوجات؛ إذ إن حكمة الله فوق رأي كل حكيم. ﴿فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3].

* * *