متقدم

فهرس الكتاب

 

إزالة الشقاق بعملية الوفاق أو الفراق

إنها متى ساءت الطباع فسدت الأوضاع ثم ساءت النتيجة، وقد جعل الله في الشريعة الإسلامية للمؤمن من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا.

ونحن نعتقد ولا شك بأن الشريعة الإسلامية عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، وقد أباحت الزواج بأربع نسوة متى علم من نفسه القدرة التامة على القيام بالعدل والكفاية في النفقة وسائر الواجبات الزوجية، وذلك في وجوب القسم في الدخول والمبيت والنفقة الواجبة، بخلاف ميل القلب بالمحبة وما يستدعيها من الشهوة الجنسية فإنها لا تدخل في مسمى القسم لأنها ليست من إمكانية الشخص كما قال تعالى: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ [النساء: 129] سميت معلقة لكونها لا ذات زوج ولا مطلقة. وكان النبي ﷺ يقسم لنسائه ويعدل ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي، فِيمَا لَا أَمْلِكُ»،[295] يعني القلب ودواعيه.

وكان النبي ﷺ في حالة مرضه يحمل إلى منزل كل امرأة من نسائه وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يريد يوم عائشة، فأذِنَّ له أزواجه أن يُمرّض في بيت عائشة فكانت تقول: توفي رسول الله بين سحري[296] ونحري[297].

أما إذا لم يستطع إعطاء كل واحدة منهن حقها إما لفقره أو لعجزه عن المباشرة الجنسية أو عدم عدله في قسمه ونفقته الواجبة، فإن تنازلت إحداهن عن حقها من ذلك فهو صحيح ويسقط حقها باختيارها متى خيرها زوجها على البقاء معه بدون قسم أو الطلاق، فإن اختارت البقاء بدون قسم فلا بأس إذ القسم من حقها ولها إسقاطه للمصلحة الراجحة من استدامة بقائها في عصمته بدون قسم، فقد وهبت سودة قسمها لعائشة، فكان النبي يقسم لعائشة رضي الله عنها يومها ويوم سودة.

أما إذا طالبت بحقها من ذلك كله فإنه يحكم لها به، وعند امتناعه يعتبر ظالمًا لها بحيث تستحق الفسخ من عصمته بطلبها.

فإذا لم يستطع إعطاء كل امرأة منهن ما تستحقه من النفقة الواجبة أو المباضعة أو عدم قسمه لها فإنها تعتبر والحالة هذه أسيرة تحت قهره وظلمه، لكون الرجل لا يستحق استدامة القوامة عليها إلا بالنفقة عليها مع قيامه بسائر واجباتها؛ يقول الله تعالى: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ [النساء: 34].

ولما كان من حالة عيش النبي ﷺ ما هو معروف من القلة فكان يمضي عليهم الشهر والشهران وما أوقد في بيت من بيوته نار، فاجتمع نساؤه يطالبنه بالنفقة عالية أصواتهن عليه، فسمع عمر أصواتهن وزجرهن وقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ؟! فأنزل الله سبحانه آية التخيير: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٢٩ [الأحزاب: 28-29] فقلن كلهن: نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولن نعود إلى المطالبة بالنفقة بعد اليوم[298].

وفيه دليل على جواز مطالبة المرأة بالفسخ عند قطع النفقة عنها بلا سبب يوجبه منها، وكونها تجب إجابتها إلى ذلك لكونه لا يستحق القوامة عليها إلا ببذل النفقة التامة، فمتى كان هذا التخيير النازل في القرآن وقع في حق الرسول مع زوجاته، مع العلم بواسع عذره من عوزه وقلة موجوده، فما بالك بمن قطع نفقته عن زوجته إضرارًا وعنادًا أفلا تستحق المطالبة بفسخ نكاحها وإجابة دعوتها في تخليصها من عصمته؟ إذ لا حق له في استدامة نكاحها إذ هذا من الضرر الذي يجب إزالته.

أما إذا اتصف بالجنف ومال إلى واحدة دون الأخرى فإنه ينهدم نظام منزله وتسوء معيشة عائلته ويحتقب أفراد عائلته العداوة له، ثم العداوة من بعضهم لبعض فيستبدلون الألفة بالنفرة والمحبة بالبغض كله من أجل الجنف الذي عامل به إحدى نسائه على الأخرى، وأنه عندما يشتد النزاع ويستمر الشقاق ويتعذر الوفاق بينهما فقد جعل الله لهن سبيلاً، فقد أنزل الله آية التخيير في حق الرسول مع زوجاته أمهات المؤمنين، ثم أنزل الله تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ [النساء: 35] وهذان الحكمان يريدان الإصلاح من الوفاق والإنفاق أو الفراق فهما حكمان مستقلان بنص الكتاب بحيث يقرران الفراق عند تعذر الحيلة في الوصول إلى الوفاق، أو يقدمان اقتراحهما إلى القاضي ويحكم بتنفيذه سواء كان على عوض مالي أو بدون عوض.

والدليل الثالث ما روى البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله ﷺ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قالت: نعم. فقال: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». وفي رواية قالت: إني لا أطيقه بغضًا. فجعل لها النبي فرجًا ومخرجًا مما وقعت فيه من البغض الشديد الذي سبب الشقاق وتعذر معه الوفاق، فما بالك بالقضاة الذين يحكمون على مثل هذه المرأة بهجرانها وقطع النفقة عنها كل السنين الطويلة مع أن الله سبحانه قد جعل لها مخرجًا مما وقعت فيه، ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ [البقرة: 231].

وفي نفس هذا المقام وما يقتضيه من الأحكام فإنني أذكر الناس فضيلة العدل وحسن ما يترتب عليه من صلاح الأهل والمال والعيال، فإن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وهو الإلف المألوف المؤمِّن من كل مخُوف، به تتألف القلوب وتلتئم الشعوب، ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح، فقد رأينا أناسًا من أهل الصلاح والتقى يتزوج أحدهم باثنتين وثلاث ويتمتع بهن متاعًا حسنًا قي عيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية بدون تنكيد ولا تكدير، وذلك كله من بركة العدل وحسن الخلق، وعلى أثره ينشأ الأولاد متحابين متجانسين متآنسين كأنهم بنو أب وأم واحدة، والعدل يُمنٌ والجنف والجور شؤم.

إن من مساوئ عدم العدل في القسم أو النفقة وقوع الضجر عليه من كثرة التشكي والمطالبة بالحقوق مما عسى أن يضجره كثرة هذا القلق والشقاق والاضطراب لاسيما إذا كان ضيق الصدر سيئ الخلق، فيوقع الطلاق على زوجته أم أولاده وبناته على أثر المشاجرة، فيكون طلاقه بمثابة الصاعقة النازلة عليها في بيتها فينهدم البيت ويتفرق شمل العيال فيندم حيث لا ينفعه الندم كما قيل:
ندمت وما تغن الندامة بعدما
خرجن ثلاثًا ما لهن رجيع
ثلاث يحرمن الحلال على الفتى
ويصدعن شمل الدار وهو جميع
فتخرج من بيته ودمعها يسيل على خدها حزينة على فراق زوجها وعلى فراق عيالها، وإنه لا أسوأ من حالة أم العيال متى خرجت وليس لها من تأوي إليه ولا من يصبر على عيالها من أهلها، فيشتد حزنها وأسفها لاسيما متى علمت أن زوجته الجديدة تعامل عيالها بالسوء وخشونة التربية من الطرد والتقريع وسوء المعيشة.

إننا بتولينا للقضاء كل السنين الطويلة قد عرفنا من حالة الناس ما لا يعرفه من لا يبتلى بالقضاء.

لقد عرفنا أن القاضي الشرعي يكلف الزوج بالنفقة على مطلقته إن كانت حاملاً حتى تضع حملها ثم ينفق نفقة الرضاع لقول الله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَ‍َٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] فينفق عليها وعلى عياله منها ما داموا في حضانتها لاعتبار أنها لهم بمثابة الخادم لإصلاح أمرهم وحسن تربيتهم.

وكل ما أوجب الإنفاق فإنه يوجب السكنى فهو وإن كلفته المحكمة الشرعية بأن تحكم عليه بذلك طبق ما أوجبه الله عليه في قوله: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ [البقرة: 233] لكن أكثر الناس من أجل عدم العدل والإنصاف لا يستجيبون لهذا الحكم ولا ينقادون لتسليم ما وجب عليهم إلا مكرهين، وأكثر الناس وإن تسموا بأنهم مسلمون لكنهم لا ينصفون من أنفسهم، وحتى بعض العلماء وبعض القضاة رأينا أحدهم يهمل عياله مع كثرتهم عند أمهم ويقطع نفقتهم عنها ويتركها تقاسي مرارة أكدارهم بدون نفقة ولا اهتمام بأمرهم.

والمرأة لا تستطيع أن تطالب بحقها عند الحاكم الشرعي في كل شهر فلا تقدر على الذهاب إلى المطالبة في المحكمة، وتختار أن يذهب حقها ولا تبرز للمطالبة والشكوى، لهذا تبقى حائرة حزينة إن أرسلت عيالها إلى أبيهم ضاعوا، وإن استدامت بقاءها بهم عند أهلها سئموا وملوا، وحتى الخطاب يمتنعون عن الزواج بها مهما كان من حسنها وجمالها من أجل عيالها، لعلمهم أنهم يكونون عبئًا ثقيلاً عليهم فتبقى أيِّمًا مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة والذل في سبيل تربية عيالها، وصار زوجها بمثابة من حملها ثم أهملها.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[299] فهذه معاملة غالب الناس في حال التزوج بالجدد من النساء ووقوع الطلاق منه على أم عياله، كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعية الطلاق والإنفاق، وهؤلاء يعتبرون من النذلاء الرذلاء الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم فلا أخلاق ولا إنفاق ولا كرم ووفاق.

ويستثنى من ذلك ذوو الشرف واليسار ومن لهم حظ ونصيب من الكرم والأخلاق فإنهم قد ينفقون النفقات الكثيرة على مطلقاتهم وأولادهم اتباعًا لأداء ما وجب عليهم وزيادة في الفضل، وهؤلاء يندر وجودهم، وهذا كله يعود إلى التخلق بمحاسن الأخلاق؛ لأن الله سبحانه فاوت بين الخلق في الأخلاق كما فاوت بينهم في الأرزاق، ومن الدعاء المأثور: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت»[300]. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 4 جمادى الآخرة سنة 1396هـ

[295] أخرجه أبو داود والبيهقي والدارمي والحاكم في المستدرك، جميعًا عن عائشة. [296] السَّحر (بتثليث الحاء): الرئة. [297] متفق عليه من حديث عائشة. [298] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [299] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [300] أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد من حديث علي بن أبي طالب.