متقدم

فهرس الكتاب

 

الاقتصار على زوجة واحدة أفضل من التعدد

إننا لا نشك ولا ننكر أن الاقتناع بزوجة واحدة متى حصل المقصود منها أنها أفضل من التعدد؛ لأن الله سبحانه حينما أباح تعدد الزوجات لم يبحه بطريق التوسع فيه على حسب التشهي والتنقل في اللذات، وتنوع المشتهيات، وإنما أباحه بشرط العدل بين الزوجات ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3]، لأن العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، وهو الإلف المألوف تتألف به القلوب وتلتئم به الشعوب ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح.

فالقناعة بزوجة واحدة هي الأصل في تسميتها زوج، وكما يسمى الرجل زوج. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الدنيا متاع، وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله»[293] وبذلك يسلم من التنكيد والتكدير عليه في حياته من كل ما يثيره أحقاد الضرائر كما قيل:
ومن جمع الضّـَرات يطلب لذة
فقد بات في الأضرار غير سديد
ونحن معشر المسلمين على دين وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، بين الغالي فيه والجافي عنه.

فالذواقون الذين يتنقلون في مراتع الشهوات من واحدة إلى أخرى تمشيًا مع رغبتهم، ودواعي شهواتهم، ليسوا بمحمودين على عملهم، وربما يدخلون بمقصدهم في نكاح المتعة المحرم في الإسلام، متى تزوجها ومن نيته أن يطلقها ولا يستديم بقاءها، وقد ورد الوعيد الشديد في الذواقين من الرجال والذواقات من النساء، ومن كانت هذه سجيته فلن تدوم صحبته.

ومن طبيعة النفوس متى استرسل صاحبها معها في تنقلها في اللذات وتنوع المشتهيات، فإنها لن تشبع نفسه أبدًا، بل كلما تزوج بامرأة جميلة يحسن السكوت على مثلها ثم ذكر له أخرى غيرها تاقت نفسه لأخذها. حتى قيل: إنه لو كان عند رجل جميع نساء العراق فقدمت امرأة من الشام ووصف له جمالها فإنها تتوق نفسه لأخذها ولا يقنع بما عنده كما قيل:
لا يُشبع النفس شيء حين تحرزه
ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وإن كانت لها سعة
لها إلى الشـيء لم تظفر به نظر
والنفس من صاحبها فإن أطمعها تاقت وطمعت، وإن سلاها سلت وسمحت.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وقد قيل: الجدة تذهب اللذة، وما كل ما فوق البسيطة كافٍ، وإن قنعت فكل شيء كافٍ، فأهنأ العيش وأسعده هو ما أرشد إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ [الروم: 21]، وهذه المودة والرحمة لا تدرك ولا تتفق غالبًا إلا في حالة انفراد الزوج بزوجة واحدة يأنس بها وتأنس به ويطمئن إليها، وهذا هو الذي أرشد إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ [النور: 32] والأيامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة، إذ هذا هو الأصل في تسمية الزوج والزوجة.

غير أن الشريعة الإسلامية السمحة أباحت التعدد بشرط التزام العدل وهو من تمام محاسنها وعموم مصالحها. وقد أخبر النبي ﷺ بداء التوسع في المشتهيات من النساء كما أخبر بطريق علاجه فقال: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذهب إلى امرأته فإن معها الذي معها». رواه الدارمي عن ابن مسعود ورواه مسلم عن جابر.

ثم إنه يتضاعف ضرر التعدد على الفقير وكل من كان مرتبه حقيرًا، لأن لكل زمان أحوالاً وأعمالاً تناسبه من السهولة واليسر ومن الشدة والعسر، فقد مضى على الناس زمان يكتفون فيه بالقليل من القوت والغذاء والملابس، وكان غالب ما يأكلونه ويستعملونه هو من نتاج بلدهم، وكان عمدة قوت الكثير منهم البر والتمر ولا يحتاجون إلى شيء من الخارج ما عدا اللباس الذي عسى أن يستعمل أحدهم الثوب الواحد غالب السنة لا يجد له بديلاً.

لهذا كان التعدد بين الزوجات لا يشق عليهم أبدًا، وربما يساعدنه في سعة رزقه بما تستعمله إحداهن من المهنة كخياطة ونشازة وشؤون الحرث والزراعة حتى قيل: امرأة الصعلوك إحدى يديه.

أما الآن وفي هذا الزمان فقد تبدلت الحالات وتجددت الحاجات وصار كل شهر يتجدد لهم حوائج ومؤن لا يجدون بدًّا منها من مكيفات وغسالات وثلاجات ومفروشات فضلاً عن السيارات، وكل امرأة تطالب بحقها من ذلك حسب عرف البلد وعادة الناس، وبذلك يتزايد الصرف ويشتد ضرره وتتراكم الديون عليه من حيث لا يحتسب، ويصعب عليه الخروج منها لأن دخوله في تعدد الزوجات بشهوة وشهامة يعود عليه بالملامة والغرامة، فالذين ينقادون مع شهواتهم إلى استحسان التعدد بدون تفكير في عواقبه هم يقعون غالبًا في سوء العاقبة والمصير.

ثم إن بعض هؤلاء متى استجد أحدهم نكاح امرأة ووقعت في نفسه موقع الحظوة والرغبة، أقبل عليها بكليته ووحدها باتصاله وصلته وقطع صلته بالأولى وقطع نفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يدعها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة، فيتضاعف عليها الضرر من كل الحالات، لعجز الزوج عن القيام بكفاءة المرأتين لا في البيت ولا في المبيت ولا في النفقة، وإن مثل هذا يستحق أن لا يسمح له بالتعدد لعجزه عن القيام بواجبه، ولإخلاله بشرطه لقوله تعالى: ﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً [النساء: 3].

إن العقل المعيشي يعقل الرجل المقل عن التعدد لغير ضرورة لما يترتب عليه من الإرهاق في الإنفاق، ثم هو يزرع زرعًا من العيال لا يستطيع سقيه ولا القيام بمؤنة كلفته.

كما أن التعدد يترتب عليه الإرهاق في صحته بسبب المباضعة التي هي هدم في قوته، فإن ماءه يخرج من سلالة جسمه، وقد وصفه رسول الله ﷺ بأنه مخ ساقيه ونور عينيه، فهو روح نشاطه وقوته كما قيل:
أقلل نكاحك ما استطعت فإنه
ماء الحياة يُصب في الأرحام
لاسيما إذا كان شيخًا طعن في السن، وقد تزوج بكرًا، فإنه إن وفاها حقها أنهك جسمه وإن قصر عنها أبغضته.

[293] أخرجه عبد الرزاق في الجامع لمعمر مرسلاً من حديث مجاهد.