متقدم

فهرس الكتاب

 

النصارى يحرمون التعدد قانونًا ويجيزونه عادة وعرفًا

إن النصارى والمبشرين يشنعون على الإسلام والمسلمين في تعدد الزوجات وينسبونه إلى مجرد التشهي والتنقل في اللذات، وينتقدون الإسلام نفسه في مشروعية ذلك، وما منهم أحد إلا وله خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته، فهم يحرمونه قانونًا ويحلونه عادة وعرفًا ولا يعدون الزنا جريمة، وقد بدأ النصارى رجالاً ونساءً يعرفون وجه الحاجة بداعي الضرورة إلى التعدد، وأخذوا ينادون بإباحته قانونًا في صحفهم ومحاضراتهم وأنديتهم، كما أخذوا يعترفون بفضل دين الإسلام في مشروعيته وأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان ينظم حياة الناس أحسن نظام، فهو الكفيل بحل مشاكل الخاص والعام، ودونك الشاهد والمشاهد لأحوالهم وأعمالهم.

قال جوستاف لوبون وهو العالم الشهير عندهم: إن نظام تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل، وُجد قبل محمد ﷺ بين شعوب الشرق وأممه، وكان مشروعًا بين الفرس ومسنونًا بين اليهود وساريًا بين العرب، فلم يكن في مقدرة أي دين من الأديان وإن أوتي قدرة كبرى على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق أن يلغي نظامًا مثل هذا النظام الذي جاء به دين القرآن ويعمل على إبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو والغاية المجتمعة لمزاج الشرق ونوع الحياة التي يعيشها.

أما عن تأثر الجو فلا حاجة إلى البسط فيه والشرح وحسبك أن مطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرق. وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات أوجب الضروريات.

أما عن الغرب وإن كان الجو أهدأ تأثيرًا والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل أن تلقى فردًا مقتنعًا بفردية الزوجية إلا في القوانين فقط. وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندره.

ومعنى ذلك أن الاقتصار على زوجة واحدة لا يوجد في أوروبا إلا في القوانين، ولا يعمل به إلا الأقلون، وأن تعدد الزوجات واقع في الغرب بين أهله وإن لم يكن مشروعًا عندهم.

إلى أن قال: لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الفاحش عند الغربيين؟! وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكانًا وأرفع قدرًا من الآخر. أما وقد فهمنا الأسباب التي عملت على تشريع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به.

إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة، وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجران المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع. انتهى[290] فقد عرفت مقالة هذا الكاتب الخبير وأن النصارى يستبيحون التعدد حرامًا وينكرونه حلالاً.

إن الإسلام دين السماحة والسهولة واليسر ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78]، ولكونه ليس المقصود من النكاح هو التمتع بالشهوة الجنسية فقط فإنها من الشيء المشترك بين الإنسان وبين بهائم الحيوان، وإنما القصد هو كثرة النسل المطلوب شرعًا والمرغب فيه عرفًا والذي يباهي به النبي ﷺ سائر الأنبياء، ثم هو يحفظ به نوع الإنسان، وكانت بعض الحكومات تدفع مرتبات شهرية للنسل للترغيب في كثرته، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[291].

والقصد من النكاح أيضًا إحصان كل من الرجل والمرأة، فإحصان المرأة بكفالة الرجل لها وقيامه بكفاية مؤنتها وحسن عشرته لها، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات، ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة وأم بنين وبنات كما أن المرأة كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك الخدوم والسيد المحشوم.
إذا رُمتها كانت فراشًا يقلني
وعند فراغي خادم يتملق
لهذا كانت المرأة عند بعض الأمم تبذل للرجل المهر على أن تكون زوجة له تحت عصمته ورعايته وتشاطره النفقة، لعلمها بحاجتها إلى كفالته وكفايته وأنها بانفرادها عن الزوج ذليلة ذميمة كما قيل: مسكينة مسكينة امرأة بلا زوج، وتدعى الأيم والأرملة.

فالشريعة الإسلامية الصادرة من الحكيم العليم تنظر إلى حالة جميع الناس وحاجتهم في حاضرهم ومستقبلهم نظرة رحمة وإحسان إلى جميعهم ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ ٤٧ [النحل:47].

لهذا أباح الله التعدد رحمة منه لجميع الناس، ذكرهم وأنثاهم لأنه من المشاهد بالعقل والثابت بالنقل أن النساء في كل بلد أكثر من الرجال، طبق ما أخبر به النبي ﷺ من أن الرجال يقلون وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، يَلُذْن به، وذلك عند ظهور الفتن والحروب التي تحصد الرجال حصدًا في آخر الزمان.

أفَترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام، يهمل جانب هؤلاء النساء الأيامى فلا يجعل لهن حظًّا ولا نصيبًا من العلوق مع الرجال بطريق مباح شرعي، لكون الرجل أقوى وأقدر على العمل وسائر وسائل الكسب من المرأة، أفلا يخفف هذا الضغط بإباحة التعدد بنكاح من ترغب في نكاحه ويرغب في نكاحها بطريق مشروع غير محظور؟ إذ هذا أصلح وأحب إلى الله من أن تبقى أيمًا تذهب نضرتها طول حياتها أو تتاجر ببضعها، بحيث تكون عرضة وطعمة لكل ساقط ولاقط، بدون زوج تأنس به ويأنس بها.

ولو سألنا الأيامى العوانس: هل الأفضل لهن البقاء على حالتهن الراهنة من العزوبة أو العلوق مع الرجال بطريق المشاركة مع الضرائر؟ لاخترن العلوق بكلمة الإجماع، لأنه أنفع وأصلح لهن. والشرع ينظر إلى حالة وحاجة جميع الناس، لا إلى امرأة واحدة تحب الحجر على زوجها في حضنها وحضانتها ولا تريد الاشتراك معها في مودته والتمتع به، لكون الثانية تدعى الضرة، وهي من أخطر ما يكون على الأولى بحيث تخشى أن تنفرد بمودته عنها فهي تكره المشاركة معها فيه، والنبي ﷺ قد حذر المرأة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته الأولى ففي البخاري ومسلم: نهى رسول الله أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها. أي من المحبة والغبطة بزوجها، فمصلحة التعدد لا يخرجه عن كونه رحمة للعالمين؛ ما حصل على هذه المرأة من مضرة مشاركة الضرة لها في زوجها، فإن المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية أشبه قتل القاتل، وقطع يد السارق، وإقامة الحد على شارب الخمر.

وقد وجد في هذا الزمان ومن قبل أزمان كثيرون من الأدباء والكتاب والكاتبات من النصارى، يدعون قومهم إلى إباحة التعدد بمقتضى القانون، وذلك حينما رأوا أكثر النساء الأيامى مشين في الأسواق كالقطعان من البقر، وحينما رأوا الزنا قد فشا وانتشر بكثرة هائلة، مما سبب قلة نسلهم. وحينما رأوا الرجال يعدلون عن النكاح الشرعي إلى الزنا، وقد ثبت بطريق المشاهدة والتجربة أن منع التعدد قد وسع في بلدانهم من خطورة الزنا لكون النفوس متى ضيق عليها في منع مشروعها اقتحمته إلى محظورها بشغف وحرص كما قيل:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
من ذلك ما قاله الفيلسوف الإنجليزي (سبنسر) في كتابه أصول علم الاجتماع: إن التعدد ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب، ولم يكن لكل رجل من الباقين إلا زوجة واحدة. فإذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها الحروب وبقي نساء عديدات بلا أزواج فإنه ينتج عن ذلك نقص في المواليد لا محالة.

فإذا تقاتلت أمتان إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاء فإنها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها بمقتضى التعدد للزوجات. وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجة تفنى أمام الأمة المعددة للزوجات. اهـ

وكأن هذا هو السبب في الضرر الذي ابتليت به الدول الأوروبية ومن على شاكلتهم حينما تساهلوا في انتشار الزنا ولم يعتبروه جريمة، ويعدونه من كمال الحرية للمرأة، فظهر عليهم أثر ضرره وسوء عاقبته بشكل ينادي بقلة عددهم وتقويض دعائم صنائعهم وأعمالهم، لكون النسل جيل المستقبل وقد أصبح عاطلاً عن العمل وعن الزواج الشرعي من رجل وامرأة، ويكتفون بالزنا بدله ولا شك أن المرأة المسافحة يقل نسلها لكون أحد الرجال يفسد حرث الآخر.

إن ضرورة قلة النسل وانتشار الفساد في الأرض هو أعظم من ضرورة التعدد بكثير.

فهؤلاء الذين يبالغون في التشنيع على المسلمين في وصف مفاسد التعدد للزوجات ما منهم أحد يكتفي بزوجة واحدة يقتصر عليها، بل لكل واحد منهم خليلة وخليلتان يخلو بهما سرًّا عن زوجته الشرعية، فأكثرهم مسافحون ومتخذو أخدان كما أن أكثر نسائهم مسافحات ومتخذات أخدان، حتى إن رجالهم أخذوا ينفرون من الزواج الشرعي لكون الزوجة بزعمه لا تقتصر عليه وحده، وتحدث له عداوة الأغيار الذين يشاركونه في التمتع بها، ويقول بعضهم: كيف تطيب نفسي أن أتزوج امرأة ثم أرى رجلاً يأخذ بيدها ويذهب بها كيف شاء وأنا لا استطيع صدها عنه ولا صرفه عنها؟! ثم إنه يراها بمثابة الغل في عنقه، والقيد في رجله، متى اشتدت كراهيته لها، ولم يتمكن بمقتضى القانون من طلاقها. فكانوا يتمتعون بالزنا ويؤثرونه على النكاح الشرعي، وكان هذا هو السبب في انتشار الزنا، وقلة النسل، يقول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ [فصلت: 53].

* * *

[290] من كتاب: حكمة التشريع وفلسفته لمؤلفه علي أحمد الجرجاوي (جزء2 ص 16). [291] رواه النسائي من حديث معقل بن يسار.