متقدم

فهرس الكتاب

 

(7) أحكام قصر الصلاة في السفر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فقد سلم إلي أحد المشايخ الكرام رسالة صادرة من فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، إلى أخ له هو: «عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله بن عقيل» تتضمن السؤال عن مسائل مرفقة بالجواب عنها، ومن أهمها: السؤال عن قصر الصلاة للمقيمين في غير بلدهم للدراسة، أو لمدة تدريبية تبلغ سنة، أو ستة أشهر، أو أقل، أو أكثر. وطلب مني هذا الشيخ النظر، وتحرير ما تقتضيه أمانة التبليغ، مما يزيد البحث وضوحًا، لكون هذه المسألة قد ابتلي الناس بالوقوع فيها وعلى أثره كثر السؤال منهم عن حكم الشرع فيها، فرأيت الشيخ محمد الصالح وقد أصدر الفتوى فيها حسبما بلغ فهمه، ووصل إليه علمه، فقسم حالة إقامة الناس خارج بلادهم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقيم الشخص إقامة استيطان. والثاني: أن يقيم إقامة انتظار لحاجة يريدها، ولم يعيّن مدة إقامته. والقسم الثالث: أن يقيم في البلد إقامة انتظار، لحاجة مقيّدة بمدة، كسنة، أو نصف سنة.

وقد استقصى إحضار ما ثبت عنده فيما يتعلق من الأحاديث، وآثار الصحابة والتابعين. وقد أجاد فيما أفاد، وقد تركز فحوى قوله على عدم صحة تحديد مدة الإقامة التي تبيح القصر بأربعة أيام، وكونه لا أصل لهذا التحديد، مستدلًّا بأن النبي ﷺ أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأنه أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر، وهو استدلال واقع في موقعه الصحيح.

وهذان الحديثان هما أصح ما ثبت عن رسول الله ﷺ في طول المدة التي تقصر فيها الصلاة.

وفتوى الشيخ تدور على عدم التقيد بمدة في قصر الصلاة، بل يجوز أن تقصر فيما هو أكثر من ذلك، لكون المدة المقتضية لجواز القصر هي: كونه في سفر، حتى تنقضي لبانته - أي حاجته - فيزول القصر بانتهاء إقامته.

وقد تسامح الشيخ وتساهل في تفريعه على القسم الذي هو إقامة الإنسان في بلد إقامة طويلة، غير مقيدة بمدة في انتظار حاجة، وكونه يجوز له القصر حتى ولو طالت مدة إقامته إلى سنة، أو نصف سنة، وكونه يجوز له القصر، والفطر في نهار رمضان.

والذي أدركت على فضيلة الشيخ: تساهله في الإقامة، حيث جعلها، وإن طالت مع العزم على الإقامة؛ أنها سفر، حتى ولو أقام سنين. وهذا من الترخيص الجافي؛ بل هو من الترخص الجائر، ويفتح للناس - وخاصة الشباب - باب الفتنة في التفريط في هاتين العبادتين - أي عبادة الصلاة، وعبادة الصيام - فيتساهلون بتركها اعتمادًا على سماع مثل هذه الفتوى.

وقد قيل: إنك لم تحدث الناس بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة[279]، وقالوا: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره.

وإن القصر في السفر، والفطر، والجمع بين الصلاتين، يجب ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد. كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم. والله يقول:

﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ [النساء: 101].

عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ﴿فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ فقد أمن الناس. فقال: عجبْت مما عجبْت منه، فسألت رسول الله ﷺ قال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[280].

والضرب في الأرض ينافي الإقامة في البلد، فلا يسمى المقيم بالبلد مدة سنة، أو نصف سنة، أنه يضرب في الأرض، أو أنه مسافر، وقد عزم على الإقامة، وألقى عنه أعباء السفر من الزاد، والمزاد، وعزم على الإقامة الطويلة فإن حكمه كحكم المقيمين في الحضر، لزوال حكم السفر عنه، وكون الرجل مسافرًا أو مقيمًا يعرفه الناس بمقتضى البديهة.

وإذا سأله سائل: هل أنت مسافر أو مقيم؟ قال: بل أنا مقيم. والنبي ﷺ أقام بمكة تسعة عشر يومًا من أجل شغله بتنظيم البلد، فالخيام فوق رؤوسهم، وعصا التسيار بأيديهم، ورواحلهم معقولة عندهم ينتظرون انتهاء المدة، وقضاء الحاجة، فهم في شغل شاغل برواحلهم من العلف والسقي والرعاية فهم في حكم المسافرين على الحقيقة، وما إقامتهم هذه المدة إلا بمثابة الإقامة في البر تحت الشجر لانتظار رفيق يلحق بهم، أو انتظار ضالة يرجون حصولها.

ومثله: إقامة النبي ﷺ بتبوك فإنها عين الحاجة، حتى ولو أقام أكثر من ذلك فهم مسافرون، وما إقامتهم هذه إلا بمثابة إقامتهم في أثناء سفرهم في البريّة. فقول أنس: خرجنا مع رسول اللهﷺ في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[281]. لا يعني بذلك أنهم فعلوا هذه الرخصة وهم مقيمون في البلد شهرًا أو شهرين، وحاشا وكلا.

ومثله: سؤال حمزة بن عمرو الأسلمي، حيث قال: إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله ﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»[282].

فهذه الرخصة: إنما أفتى بها رسول الله ﷺ في حالة سفره، لا في حالة عزمه على الإقامة الطويلة، فإن هذا من عداد المقيمين لا المسافرين، ولكل شيء حكمه. ومتى ثبت الأمر بعلة، فإنه يزول بزوالها.

ومثله: ما حكاه ابن عمر من إقامة الصحابة بأذربيجان أربعة أشهر، يقصرون الصلاة، وقد حال الثلج بينهم وبين القفول. وذلك أن الصحابة غزوا بلدان فارس وهم غرباء بها. ومن طبيعة الثلوج أنها تنزل بالليل وتتراكم حتى تكون بمثابة الجبال كما أن الناس يشاهدونها في كثير من البلدان، إلى حالة أنها تدفن السيارات. فالصحابة رضوان الله عليهم وقعوا في مأزق من هذا الثلج الذي حال بينهم وبين القفول، لكونه سد عليهم فم الشعب، فهم بوجوده لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، مع العلم أن الخيام مضروبة فوق رؤوسهم، وأن عصا التسيار بأيديهم، وأن رواحلهم معقولة عندهم ينتظرون الفرج للخروج، وفي كل يوم يقولون: ستذوب الثلوج. فلا ينبغي أن يقاس على هؤلاء ما ليس مثلهم، فإنه لو سألنا سائل عن أمثال هؤلاء من القوم الغزاة، بحيث نزلوا يحاصرون بلدًا لفتحها - كالمجاهدين في سبيل الله - وقد أقاموا في حصار البلد شهرين أو ثلاثة أو ستة أشهر أو أكثر، فإننا نقول بجواز قصرهم للصلاة، وفطرهم. ومثله: لو حاصر العدو بلد المسلمين، وقابلوه لقتاله، فإنه يجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف، بكل طائفة ركعتين، كقصر السفر، كما يجوز لهم أن يفطروا رمضان وهم في بلدهم، لتقويتهم على القتال. وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية أهل دمشق بالفطر في رمضان في قتالهم التتار. وكل ما ذكره الشيخ محمد من قصر الصحابة والتابعين، مع طول مدة الإقامة، فمحمول على ما ذكرنا من حصارهم للبلدان؛ إذ إنهم يقيمون في حصار البلد شهرين وثلاثة، فهم باقون في حكم شدة السفر ومشقته، ولم يحلّوا حزامهم منه.

أما الطلاب الذين وصلوا إلى أمريكا، أو لندن، ومن عزمهم الإقامة سنة أو أقل أو أكثر وقد ألقوا عنهم جلباب السفر، وعزموا وصمموا على الإقامة، فهؤلاء يعتبرون بأنهم مقيمون لا مسافرون، شرعًا وعرفًا ولغةً. أما كونهم في إقامتهم في حاجة للتعلم، فليس هذا بعذر، فإن كل الناس لا تنقضي حاجاتهم، كما قيل:
نروح ونغدوا لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضـي
لهذا ينبغي أن يعطى السفر والضرب في الأرض حقه من رخصة في القصر وفي الفطر وفي الجمع. وهو رخصة وليس بسنة.

أما القصر في السفر فسنة. فينبغي أن تقيد رخص السفر بالسفر، والعزم على الإقامة بالإقامة، ولكل شيء حكمه.

ثم إن التوسع في رخصة السفر في مدته وإباحة القصر والفطر فيه، مع العزم على الإقامة، تعطي الناس - وخاصة الشباب - شيئًا من الاستهانة بالأمر والنهي، وخاصة الفرائض المحتمة؛ من الصلاة، وصيام رمضان. إذ من المعلوم أن من استباح الفطر اعتمادًا على مثل هذه الرخصة الجافية، فإنه لن يستطيع الصيام، وهو أمر مشاهد بالتجربة، يشهد به الواقع المحسوس، لكون صيام الشخص مع الناس يعطيه شيئًا من القوة والنشاط على الصيام، ويسليه بأسوته بغيره.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الصيام من الاختيارات: إن المسافر متى عزم على إقامة أقل من أربعة أيام، جاز له الفطر. انتهى.

فلم يتوسع في الرخصة كتوسع هذا الكاتب، عفا الله عنه.

والمقيمون من المسلمين في بلاد الغرب، متى استهلوا هلال رمضان، عرفوا تمام المعرفة أنه يجب عليهم الصيام، ويحرم عليهم الفطر، والله يقول: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ [البقرة: 185] فأوجب الله سبحانه صيام رمضان على كل من شهد هلال رمضان، وهو مقيم في البلد، معافى في الجسد، ثم رخص في فطر المريض، وفطر المسافر مع العزم على قضاء ما أفطر من عدة أيام أخر. ولا ينبغي أن يحمل هذا المسافر الذي أُبيح له الفطر، على من عزم على الإقامة في بلد غير بلده المدة الطويلة، فإن هذا حكمه حكم المقيمين لا المسافرين.

أما الجمع بين الصلاتين: فقد ثبت عن النبي ﷺ في المتفق عليه من حديث أنس، أنه كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر، ثم ارتحل.

وفي قدوم النبي ﷺ عام حجّة الوداع إلى مكة، كان يصلي كل صلاة في وقتها، قصرًا، ما عدا أنه جمع بين الظهر والعصر بعرفة؛ لاتصال الوقوف، وجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة. وما عدا ذلك، فإنه كان يصلي كل صلاة في وقتها. ولهذا قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع بمنى، فقد كذب عليه.

ولهذا قال العلامة ابن القيم في الوابل الصيّب: إنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول، أو تعسره عليه. فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم، فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة. فالجمع ليس بسنة راتبة كما يعتقده أكثر المتأخرين، بل الجمع رخصة عارضة، والقصر سنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن. وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة. وهذا لون وذاك لون آخر. انتهى.

ولا ينبغي أن ننسى الفتوح زمن عمر، وزمن عثمان، وعلي رضي الله عنهم، وما قبل ذلك، حين أرسل النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، فكانا يتمان الصلاة؛ لاعتبار أنهما مقيمان في البلد.

ومثله الأمراء، والقضاة الذين يبعثهم الخلفاء الراشدون إلى البلدان، كما بعث عمر ابن مسعود إلى العراق يفقههم في الدين، وكما بعث أبا موسى الأشعري أيضًا، وكما بعث سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة، وكلهم ليسوا مستوطنين في هذه البلدان، فكانوا يتمون الصلاة، ويحافظون على صيام رمضان، ولم يقع ببال أحدهم أنه مسافر مع حالتهم هذه.

ومثله أمراء الأجناد بالشام، كانوا يتمّون الصلاة في إقامتهم، مع عزمهم على عدم الاستيطان، ولم يقع ببال أحدهم أنه مسافر يستبيح رخص السفر.

ثم إن الشيخ - عفا الله عنه - يستدل على صحة ما ذهب إليه، بما هو حجة عليه، فيستدل على جواز القصر بقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ [النساء: 101] قال: والضرب هو السفر. وهذا تفسير صحيح.

ثم قال: وإذا كان الله قد أباح القصر للضاربين في الأرض للتجارة وغيرها، وهو يعلم سبحانه أن من التجار من يمكث في البلاد عدة أيام، لطلب التجارة وعرضها، علم أن الحكم عام.

ونقول: إن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فالعرب يعرفون بلاغة القرآن بلغته، ويعرفون معنى الضرب في الأرض، وأنه السفر، ويفرّقون بينه وبين العزم على الإقامة، وأن هذا ملحق بالحضر. ونحن نقول بجواز قصر التاجر إذا قدم البلد؛ لشراء شيء من الأغراض، ولعلاج مريض أو تجارة، وليس من نيته الإقامة بالبلد فإنه يقصر الصلاة لاعتبار أنه مسافر بنيته وفعله، حتى ولو أقام لحاجته عشرة أيام، أو عشرين يومًا. وتفسير القرآن واضح من لفظه، إذ ليس الضارب في السفر كالمقيم في الحضر.

ثم إن قياسه للعازمين على الإقامة بالبلد أزمنة طويلة، كسنة، أو نصف سنة، على إقامة النبيﷺ بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، إنه قياس فاسد مع الفارق، فإن رسول اللهﷺ بمكة لم يُلق عصا التسيار من يده، والخيام مضروبة على رؤوسهم، والرواحل معقولة عندهم، ينتظرون قضاء مهمة التنظيم، ثم يرحلون. فأين عذر هؤلاء من المقيمين سنة أو نصف سنة؟

ثم رأيت الشيخ نقل كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في فقه غزوة تبوك من صفحة 29/3 من زاد المعاد قائلاً: إن النبي ﷺ مكث بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يقل النبي ﷺ للأمة: لا تقصروا الصلاة أكثر من أربعة أيام. ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر، ولا تخرج عن حكم السفر، سواء طالت أم قصرت، إذا كان غير مستوطن، ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع... انتهى.

فانظر إلى كلام العلامة حيث قرن المقيم بالبلد، بالمستوطن بها، وكلاهما لا يسوغ لهما استباحة رخص السفر، لاعتبار أنهما مقيمان بالبلد غير مسافرين.

ثم قال الشيخ: إن الأصل: أن المسافر باق على سفره، حقيقة عرفية وشرعية، حتى ينتهي برجوعه إلى محل إقامته (يعني بلده).

فالجواب أن نقول: إن هذه ليست بشرعية ولا عرفية، فإن المسافر مسافر، والمقيم مقيم، فهذه الجملة تعطي كون الإنسان متى أُرسل إلى بلد لولاية القضاء بها أو الإمارة، أو ولاية أي عمل من أعمال الحكومة، فإن هذا الكاتب يعتبره مسافرًا حتى ولو أقام في وظيفة عمله سنين عديدة، فإنه يبقى على حكم سفره، بحيث يباح له القصر، والفطر في رمضان، والمسح على ثلاثة أيام، والجمع بين الصلاتين، وما هو من اختصاص المسافر!

وهذا القول مخالف لإجماع المسلمين وما يعتقدونه من حكم دينهم، وكون المسلم متى عزم على إقامة طويلة، ولو بدون استيطان، فإنه يجب عليه أن يتم الصلاة بها، ويصوم رمضان، كفعل سائر أهل البلد؛ لاعتبار أنه مقيم وليس بمسافر، والناس كلهم يفرقون بين المقيم والمسافر، كما قيل:
أيا جارتنا إنا مقيمان ها هنا
وكل غريب للغريب نسيب
ثم ساق الكاتب آثار الصحابة في قصرهم الصلاة بأذربيجان ستة أشهر، وقد أسلفنا الكلام عليه، وبيان العذر فيه، وكون الصحابة مرغمين بالثلوج الحائلة بينهم وبين القفول.

وقد أكثر الكاتب من تكرار عدم صحة التقييد بأربعة أيام، ثم ساق أثرًا من مصنف ابن أبي شيبة: أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إننا نطيل القيام بخراسان. فقال: صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين.

ثم ساق من مسند عبد الرزاق عن الحسن، قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة في بعض بلدان فارس سنين، فكان لا يجمع، ولا يزيد على ركعتين.

ثم ساق عن أنس وأنه أقام بالشام شهرين يقصر الصلاة. ثم ذكر البيهقي عن أنس بن مالك: أن أصحاب رسول الله ﷺ أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة. قال ابن حجر: صحيح. وكذا صححه النووي.

فالجواب عن هذه الآثار: أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وأنه ينبغي النظر في هذه الآثار وصحة سندها إلى أصحابها، ثم النظر في السبب الذي أوجب لهم استباحة هذا القصر المدة الطويلة، إذ إن معرفة السبب هو نتيجة صحة الحكم، كما يقولون: تشخيص الداء نصف علاجه. وإن الصحابة في زمانهم قد أوقفوا أنفسهم للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، فكانوا يحاصرون البلدان بدون عزم على إقامة فيها، فهم ينتقلون من بلد إلى بلد، وما استباحوا رخص السفر من القصر والفطر، إلا لكون السلاح بأيديهم والرواحل معقولة، والخيول مسرجة، تتراوح غاراتها بينهم وبين عدوهم، ويسيرون إلى البلدان على الرواحل، وأكثرهم يسيرون مشاة، فيعرض لهم طول الإقامة في البلد؛ لصعوبة الحصار في فتحها، فهم مستوجبون لقصر الصلاة وللفطر في رمضان مدة إقامتهم وإن طالت.

وقد قلنا: إنها لو حوصرت البلد، فإنه يجوز لأهلها أن يصلوا صلاة الخوف - أي ركعتين بكل طائفة - كقصر الصلاة في السفر، كما يجوز لهم الفطر. فمتى كان هذا في بلد الإنسان، فما بالك ببلدان الأعداء البعداء، الذين لا يتوصلون إليها، ولا يحاصرون أهلها، إلا بمشقة شديدة. علمًا أن قول الصحابي وفعله ليس بحجة فما بالك بالتابعين وما فعلوه من القصر مع حالتهم هذه، فإنه موافق لنصوصها.

ثم قال الشيخ محمد: فهؤلاء أربعة من الصحابة، وأربعة من التابعين كلهم يرون جواز القصر في المدة الطويلة من إقامتهم.

وأقول: إن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ. وأقوال الصحابة والتابعين إنما يحسن الاستدلال بها في حالة الاعتضاد، لا في حالة الاعتماد، وهذا الاستدلال واقع في غير موقعه الصحيح؛ فإن قصر الصحابة للصلاة كل المدة الطويلة، فإنه موافق لنصوص الشارع ومقصوده؛ لكونهم لم يتحللوا عن عقدة سفرهم، بل هم باقون في شدة السفر ومشقته، الذي أُبيح القصر والفطر من أجله. فلا ينبغي أن يقاس عليه ما هو بعيد عنه في الحقيقة والمعنى، إذ لا قياس مع الفارق.

فإن هذه الآثار التي استدل بها الكاتب على صحة ما ذهب إليه، هي بالحقيقة مقتطفة من غزوات الصحابة في فتوح البلدان، فكانوا ينازلون البلد بالشهرين والثلاثة ولا يستطيعون فتحها، وحسبك ما جرى لهم من فتوح مدائن فارس وتسمى مدائن كسرى، وهي محصنة بكل القوّات والوسائل.

كما أشار الكاتب إلى رامهرمز وأنهم مكثوا فيها سبعة أشهر يقصرون الصلاة. وكذلك تستر أقام فيه الصحابة أشهرًا يقصرون الصلاة. وكذلك المدائن بفارس، وكانوا يقيمون في حصار إحدى المدائن بالشهرين والثلاثة في محاولة فتحها، ثم ينتقلون إلى الأخرى، وفي كلها يقصرون الصلاة. والسبب الذي جعلهم يقصرون الصلاة هو: بقاؤهم في حالة سفرهم بحيث لم يتحللوا عنه، ثم مزاولتهم بداعي الشدة والمشقة للجهاد في سبيل الله؛ وذلك أنهم وصلوا إلى هذه البلدان على رواحلهم، وبعضهم يمشون على أرجلهم، وقد جلبوا الخيول معهم، فينزلون في المكان اللائق لحالة القتال، فيضربون الخيام على رؤوسهم، ويعقلون رواحلهم، ثم يبارزون عدوهم وينازلونه، وتستمر غارات الخيل من بينهم، ويمكثون في حصار البلد مع شدة صعوبتها ستة أشهر وسبعة وأكثر وأقل.

ولا شك أن القصر والفطر مع هذه الحالة أنه متعين، لكونهم في غاية شعثاء السفر ومشقته، فلا يقاس عليه إلا ما هو مثله في العلة والحكم، أما كونه يقاس عليه ما هو بعيد عن مماثلته، فإنه قياس فاسد، إذ هو قياس مع الفارق.

وفي القرن الثاني، عند ابتداء تدوين الحديث والفقه، نقل بعض الفقهاء قضية قصر الصحابة للصلاة مع أميرهم كل الأشهر الطويلة بدون أن يذكروا السبب المقتضي لإباحة القصر، الذي يعرف به سببه وعلته.

ثم أخذ العلماء من المحدثين والفقهاء يتناقلون هذه الأقوال على علاتها من واحد إلى آخر، كما هو الجاري من عادتهم: أن بعضهم ينقل عن بعض، حتى وصل دور النقل إلى فضيلة الشيخ محمد الصالح فأخرجها كقاعدة مسلمة، ترتفع عن مجال الشك والإشكال، وسيأتي من بعده من يقتدي به في قوله، وهكذا يتسرب الخطأ من عالم إلى آخر. وقد قيل:خلاصة الجوهر تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع رداء الشك.

فيا سبحان الله! هل يقاس هؤلاء، الذين هم باقون، ولم يحلوا عقدة سفرهم عنهم، وقد بقوا محاصرين لعدوهم ليلاً ونهارًا، بالناس النائمين على فرشهم؟!

أفيقاسون بالتاجر المترفه المقيم بالبلد سنة وأكثر، فيسمى مسافرًا يستبيح رخص السفر وهو مقيم؟!

إن من لوازم هذا القول: أن جميع المعلمين والمعلمات والأطباء والطبيبات، وغير ذلك من سائر البلدان والمقيمين الآن في البلدان العربية مدة سنتين وثلاث وخمس، مع العلم أن لهم بيوتًا في بلدانهم، يحنون إليها، ويسعون سعيهم للرجوع إليها.

أفيقال: إن هؤلاء في حكم المسافرين، لا المقيمين؟! وهل يباح لهم استباحة رخصة السفر؟ ولو سألت أحدهم: هل أنت مسافر أو مقيم؟ لقال لك: بل أنا مقيم!

والمؤمنون منهم يعتقدون وجوب إتمام الصلاة والصيام، لا يختلج في قلب أحدهم الشك في ذلك، لأن كون الإنسان مسافرًا أو مقيمًا هو مما يدركه كل إنسان ببديهيته وفطرته.

وأنا أنقل لك قضية تاريخية قريبة العهد بالحدوث، وهي تقرب من فهم قضايا الصحابة في قصرهم الصلاة الأشهر الطويلة.

وحاصل القضية هو أن علماء الدعوة ذكروا في كتبهم أن الإمام فيصل بن تركي رحمه الله ومعه علماء الرياض نزل بجنوده في مكان يسمى مسيمير بطرف الدوحة - قطر، من جهة الجنوب، وهو باق بتسميته إلى الآن. فمكث بهذا المكان أربعة أشهر، وهم يقصرون الصلاة، ومعه العلماء، فأثبتوا هذا القصر في المدة الطويلة في كتبهم بدون ذكر سببه الذي يوضح موجبه، وذلك أن الإمام في ذلك الزمان أراد فتح البلاد، وحاصرها كل المدة الطويلة، وكانت الخيل تغير من بينهم، ثم حصل الصلح ورجع إلى أهله.

فنزول الإمام فيصل في هذا المكان هو مثل نزول الصحابة في ذلك المكان، وقصره الصلاة طول الزمان هو مثل قصر الصحابة للصلاة في ذلك المكان، فهم وإن كان الصحابة أفضل من كل من جاء بعدهم، لكن الشيء بالشيء يذكر.

والحاصل أن يقال: إن هذه المدة الطويلة، التي استباح الصحابة قصر الصلاة فيها، إنه قد استعملها الإمام فيصل في قصر الصلاة كل المدة الطويلة، متأسيًا بالصحابة، إذ عذره في سفره مثل عذرهم، وكل واحد منهم يستوفي أجره من ربه على حسب عمله ونيته.

ومثله ما لو أرسلت إحدى الحكومات الإسلامية طائفة من الجنود لحراسة ثغر مخوف لحمايته مما يترقب دخول الأعداء من جهته، كما فعل حاكم عُمان في إرسال الجنود دون دخول الشيوعية إلى البلدان الإسلامية، فإن هؤلاء الجنود يجوز لهم قصر الصلاة، والجمع بين الوقتين؛ لاعتبارهم مسافرين دائمًا، لكون نظام الحراس الانتشار في الجهات للتجسّس عن تسرب الأعداء، ولا يزالون ملازمين لعملية الكشف عن الأمكنة ليلاً ونهارًا.

ويسمى مثل هذا بالرباط، كما أن المحافظين على حراسته وحمايته يسمون بالمرابطين. وورد في فضل الرباط أحاديث كثيرة، و «رِبَاطُ يَوْمٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا» [283]

وكان الصحابة يتطوعون بالمرابطة، وأنها أفضل من التطوع بالصلاة والصيام والحج.

والمرابطة دون دخول الشيوعية إلى بلدان المسلمين هي من الجهاد في سبيل الله. وكان الفضيل بن عياض صديقًا لعبد الله بن المبارك، فسافر الفضيل بن عياض إلى مكة للتعبد بالطواف والصلاة في المسجد الحرام. وسار عبد الله بن المبارك إلى طرطوس للمرابطة في الثغر، فكتب الفضيل بن عياض إلى عبد الله بن المبارك يخبره بصحة حاله، وصلاح أعماله. فلما جاء الكتاب إلى عبد الله بن المبارك قال للرسول: إذا عزمت على السفر إلى مكة فأخبرني، فجاءه فأخبره بعزمه، فكتب عبد الله بن المبارك جواب الكتاب إلى الفضيل بن عياض، وضمنه هذه الأبيات التي يذكر فيها اغتباطه بمقامه في المرابطة في سبيل الله، وهي:
يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
قال: فلقيت الفضيل بالكتاب في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه. وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني.

والمقصود أن الأمر الذي يجب بيانه وننصح بموجبه أن كل من أتى بلدًا غير بلده؛ من تاجر أو طالب علم، ومن نيّته الإقامة بها مدة طويلة، كأربعة أشهر أو أقل أو أكثر، فإنه يجب عليه إتمام الصلاة، وصيام رمضان، ولا يحل له أن يترخص برخص السفر، لكونه معدودًا من المقيمين لا المسافرين.

أما الذي دخل البلد لحاجة العلاج له، أو لقريبه، أو لحاجة التجارة، ومن نيته عدم الإقامة، فإنه يجوز له أن يترخص برخص السفر، من قصر الصلاة، ما لم يجمع على إقامة، لكون هذه الإقامة لا تقطع نية السفر، أشبه إقامته في البر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له ص80 في قصر الصلاة في السفر والفطر وأحكام السفر[284].

قال: وأما الإقامة فهي خلاف السفر. فالناس رجلان: مقيم، ومسافر؛ ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم، وإما حكم مسافر. وقد قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ [النحل: 80]، فجعل الناس يوم ظعن، ويوم إقامة. والله تعالى أوجب الصوم وقال: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185]. فمن ليس مريضًا ولا على سفر، فهو الصحيح المقيم. ولذلك قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلاَةِ»[285] فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم. انتهى.

قرر شيخ الإسلام حكم السفر وصفته، وما يترتب عليه من أحكامه ورخصه، وقرر الإقامة وحقيقتها، وما يترتب عليها من الأحكام.

ثم رد على فقهاء المذاهب في تحديدهم مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة بيومين، وقال: إنه لا دليل على هذا التحديد، بل كل ما يطلق عليه اسم السفر فإنه سفر تقصر فيه الصلاة. وضعَّف حديث: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»[286]. وقال: إن أهل مكة قصروا مع النبي ﷺ في سفرهم إلى عرفة، ومسافة عرفة من مكة بريد، نقلوا له الزاد والمزاد فصار سفرًا.

وما يذكره بعض الفقهاء من أنه قال لهم بمنى: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[287]. لا صحة له. فإنه إنما قال لهم هذا ببطن مكة، حين صلى بهم الظهر يوم العيد في المسجد الحرام، حين طاف طواف الإفاضة.

كما رد على الفقهاء في تحديدهم الإقامة التي تقصر فيها الصلاة بأربعة أيام وقال: لا دليل على هذا التحديد؛ فإن رسول الله ﷺ أقام بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وإقامته هذه لم تخرجه عن حكم السفر؛ لأنه جلس لتنظيم شؤون الفتح، ولأنه فتح عظيم، دخل الناس به في دين الله أفواجًا طائعين، لكون عرب الحجاز ونجد تريثوا بإسلامهم حتى فتح مكة، وقالوا: إن كان رسولاً، فسيظهر على قريش ويفتح مكة، وإن لم يكن رسولاً، فستظهر عليه قريش. ولما فتح الله له مكة أقبلت العرب من كل فج يظهرون إسلامهم، وسُمي عام تسع بعام الوفود. فإقامته بمكة هذه المدة الطويلة لم تخرجه عن حكم السفر، ولم يحلل حزام السفر عنه، بل باق على حالة شدة السفر ومشقته، الذي شرع قصر الصلاة لأجله.

وقد بعث البعوث إلى أطراف الحجاز ونجد لنشر دعوته، وانتظر بم يرجع المرسلون. وقد عزم على غزو هوازن فخرج إليهم في حنين، فهو في سفر مستمر كل مدة إقامته. ومثله يقال في غزوة تبوك، وأنه بعث بعض أصحابه إلى من حول تبوك يبلغهم رسالته، ويدعوهم إلى دين الإسلام، فأقام في انتظار رسله عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يحلل عنه حزام السفر، والخيل قائمة على سوقها، والرواحل معقولة، والناس باقون في شعثاء السفر ومشقته، يشتغلون بعلف رواحلهم وسقيها ورعايتها. وما إقامته هذه إلا بمثابة إقامته في البر لانتظار رفيق يلحق به، أو ضالة ينتظر ردها، أو تمريض صاحب. فهم لم يخرجوا بإقامتهم هذه عن حكم السفر. ويقاس عليهم ما هو مثلهم في العذر، لا ما هو بعيد عن مشابهتهم، وأن من كان على مثل حالة النبي ﷺ وحالة أصحابه في الفتح، وفي تبوك، فإنه يباح له قصر الصلاة، سواء كان عشرين يومًا أو شهرًا و أقل و أكثر.

ويجوز له الفطر، ومسح الخف ثلاثة أيام بلياليها، وغير ذلك من رخص السفر التي تصدق الله بها على عباده لتخفيف مؤنة السفر وتكاليفه عنهم، لما روى أحمد وأصحاب السنن وصححه: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيْامَ، وَشَطْرَ الصَّلاَةِ».

ولما قالوا للنبي ﷺ: كيف نقصر وقد أمِنّا؟ فقال: «إِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[288] وقد قال النبي ﷺ: «إن السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم عن نومه ولذته، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نُهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ»[289].

أما من قدم البلد ومن نيّته أن يقيم بها مدة طويلة، كشهرين وثلاثة، أو نصف سنة، أو على عزم أن يصطاف بها، سواء كان معه أهله، أو هو وحده، وسواء كان في تجارة، أو في طلب علم، فهذا ملتحق بحكم المستوطن بالبلد في سائر أحكامه، من وجوب إتمام الصلاة، ومن وجوب الصيام، ومن وجوب الجمعة، والمسح على الخف يومًا وليلة، كالمقيم؛ لكونه قد تخلى عن مؤنة السفر وتكاليفه، فالتحق بحكم الحضر، وزال عنه اسم السفر، لكون الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، فهذا مقتضى حكم القرآن والسنة في القصر والفطر.

إن الناس ينقسمون إلى قسمين:

أحدهما: المسافر، فيعطى أحكام السفر حتى لو تخلل سفره إقامة لم تخرجه عن حكم السفر، ولم يحل فيها حزام سفره، ولم يلق عنه جلباب السفر وتكاليفه، كما فعل النبي ﷺ بمكة وتبوك، وكما فعل الصحابة في فتوح البلدان. فهذا مسافر حكمًا وعرفًا، ويستبيح رخص السفر كلها، صدقة من الله عليه، وما هذه الإقامة إلا بمثابة إقامته في البر، لانتظار رفيق، أو تمريض صديق، أو رد ضالة، فلا يخرج بها عن حكم السفر.

القسم الثاني: المقيم بالبلد إقامة طويلة، كالصيفية ونحوها، أو كنصف سنة للتجارة، أو طلب علم، فهذه الإقامة حكمها حكم الاستيطان في سائر الأحكام من وجوب إتمام الصلاة، ووجوب الصيام، ووجوب الجمعة، والاقتصار في مسح الخف على يوم وليلة، وسائر ما هو من واجبات الحضر؛ لكون الأصل في المقيم بالبلد الإتمام، وسائر ما يلزم الحضر المستوطنين. أما المسافر فإن له إباحة سائر رخص السفر. وكونه مسافرًا أو مقيمًا يعرف بالبديهة من أمره وتصرفه.

والحاصل: أن من أحب العصمة في عمله، والثقة في أمره، فليتمسك بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية، في سفره وإقامته، وليدع عنه التحويلات البعيدة التي يقال فيها: إن فلانًا الصحابي أقام سنتين يقصر الصلاة، وإن فلانًا أقام سنة يقصر الصلاة، وإن الصحابة أقاموا بأذربيجان أربعة أشهر يقصرون الصلاة، وإنهم أقاموا برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة.

فإن هذه الأقوال كلها تحتاج إلى نظر في صحتها، ثم إلى نظر في معرفة أسبابها، لكون معرفة السبب مما يعين على معرفة طريق الحكم. وأكثر هذه القضايا، أو كلها، وقعت في فتوح البلدان، حيث كان الصحابة يقيمون في منازلة البلد في فتحها الشهرين والثلاثة، وهم يقصرون الصلاة. فنقل قدماء الفقهاء قصرهم للصلاة في المدة الطويلة وأهملوا ذكر سببها، وكونها إقامة لم تخرجهم عن حكم السفر، بل هم باقون على شدة السفر ومشقته، لم يحلّوا حزامهم منه.

وعلى فرض صحة هذه النقول، فإنها أعمال وقعت من الصحابة والتابعين على سبيل الاجتهاد منهم، والصحابي فضلاً عن التابعي إنما يحتج بروايته لا برأيه، لكون الرأي يخطئ ويصيب.

هذا: وإن العصمة والثقة في التمسك بسنة رسول الله ﷺ القولية والفعلية في سفره وفي إقامته، فما آمنٌ في دينه كمخاطر. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

9 جمادى الآخرة سنة 1399 هـ.

* * *

[279] عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. أخرجه مسلم. [280] رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث ابن جرير. [281] رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري. [282] رواه مسلم. [283] أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي. [284] هذه الرسالة هي من مطبوعات صاحب المنار محمد رشيد رضا. قام بطبعها واعتنى بتصحيحها سنة 1345هـ. [285] رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع عن أنس بن مالك. [286] أخرجه الدارقطني في السنن والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عباس. [287] أخرجه مالك والطيالسي في مسنده من حديث عمر بن الخطاب. [288] رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. [289] متفق عليه من حديث أبي هريرة.