متقدم

فهرس الكتاب

 

كثرة اعتراض الوهم والتخيلات في رؤية الهلال

قد حدثني رجال عدول من أمراء آل ثاني قائلين: خرجنا في اليوم التاسع والعشرين من شعبان إلى الصحراء لنرى الهلال، فبينما ننظر إليه من جهته فوقع نظرنا على قطعة سحابة صغيرة تشبه الهلال، فأخذنا نكبر ونقول: هلال خير ورشد لا نشك في أنه الهلال، فبينما نحقق النظر فيه رأيناه يتمزق، ثم اضمحل فعلمنا أنها سحابة.

والمقصود أن منشأ هذا الاختلاف بين المسلمين في صومهم وعيدهم ليس نتيجة اختلاف في العقيدة أو العبادة، ولا عن التفاوت في مطلعه، بحيث يراه قوم دون آخرين. وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال.

وأكبر شبهة تعتري الناس في هذه المشكلة هو زعمهم باختلاف مطلع الهلال بتباعد الأقطار، وهذا الاعتقاد يكذبه الواقع المحسوس، فإن كنتم في شك مما قلنا فاسألوا أهل المغرب: متى رأيتم هلال الفطر من هذه السنة؟ يخبرونكم بأنهم رأوه ليلة الأربعاء وصار عيدهم بالأربعاء، ثم اسألوا أهل المشرق، كأهل باكستان والهند يخبروكم بمثل ذلك؛ مما يعلم به اتفاق مطلعه في كلا الجهتين على حد سواء، ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ [النمل: 88].

ومثله ما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان في مجتمع من الناس، منهم إياس بن معاوية يلتمسون الهلال، وكان أنس قد طعن في السن، فقال أنس: أنا رأيت الهلال هو ذاك. فقال إياس بن معاوية: محال أن يراه أنس، ومحال أن يتعمد أنس الكذب، ثم فرك بمشافر عينيه فقال: انظر - رحمك الله - هل تراه؟ قال أنس: أما الآن فلا أراه. فعلموا أنها هدبة اعترضت لعينيه فحسبها هلالاً ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

فالفقهاء من الأحناف القائلون بأنه لا بد من الاستفاضة بخبر الرؤية بأن يشهد بها عدد من العدول يبعد تواطؤهم على الكذب، لأنه متى كان الهلال في السماء فإنه لا يكتفى برؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما.

فالقائلون بذلك هم مجتهدون ومصيبون في حكمهم فلا يلامون على ما فعلوا من الحزم، وأحزم الحزم سوء الظن بالناس، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال، فقال: إنه لا يعتد برؤية الواحد ولا الاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية إذ لو كانت الرؤية صحيحة لرآه أكثر الناس... انتهى.

لا سيما إذا كان المدّعون لرؤيته مجهولين أو غائبين عن البلد لوقوع التفاوت في الخبر بين الحاضر والغائب، كما قيل:
الاخبار فيها من بعيد تفاوت
فما بال إذ جاء النبا من بعيدها
وهذا هو حقيقة ما اعتمده ابن عباس في حديثه المشهور، كما رواه مسلم في صحيحه عن كريب: أن أُم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية رضي الله عنهم بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معهم معاوية. فقال: لكن رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نراه.

وهذا الحديث هو بمثابة المرفوع، حيث قال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ، وكأنه يشير إلى قول النبي ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [276] وكذا حديث: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمْ فَأَفْطِرُوا» [277] والخبر بأنه رآه فلان لا تعتبر رؤيته رؤية صحيحة لاسيما إذا كان مجهولاً.

لهذا امتنع ابن عباس عن خبر الرؤية حتى مع قبول معاوية وهو أمير الكوفة، وقال: أما نحن فلا نزال نصوم حتى نراه. أراد أن يتم صوم رمضان عن يقين وبصيرة من أمره بدل إحالته على خبر مجهول لا يعرف عن صحته.

ثم إن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان احتياطًا وحفظًا لهذه الفريضة، إذ ما كل قول برؤيته في أي بلد يكون صحيحًا ثابتًا. ولا كون الرائي عدلاً صادقًا كما سبق القول به من الفقهاء المتقدمين، والحق عدم صحة القول بالتفاوت، كما سبق منا بيانه.

وقد استنبط الفقهاء المتقدمون من هذا الحديث القول باختلاف المطالع إذا تباعدت الأقطار، وأن أهل كل قطر يعملون برؤيتهم أخذًا من مفهوم هذا الحديث بدون أن يقع له ذكر فيه وهم مجتهدون في زمانهم ومأجورون - إن شاء الله تعالى - على اجتهادهم، لكنه لا يلزم صحة ما قالوا ولا العمل به ما دامت الحقائق تكذبه.

فهم قالوا بذلك في حالة انقطاع السبل وتباعد أخبار الأقطار فلا يعلم أهل المشرق عن كيفية صوم أهل المغرب وفطرهم ولا عن كيفية طلوع الهلال عندهم.

أما في هذا الزمان عند وجود آلة التليفون والتلفزيون والذي صار أهل المشرق يخاطبون به أقصى أهل المغرب شفهيا بصوت جلي غير خفي ليكلم من في المشرق صاحبه في المغرب: متى رأيتم الهلال؟ ومتى صمتم ومتى أفطرتم؟ فيخبره بواقع الأمر والحال، إذ لو كان صحيحًا لكان أهل المغرب أحق بالسبق إلى رؤية الهلال من أهل المشرق لقربهم من مغيب الشمس الذي يُرى الهلال قريبًا من غروبها، وواقع الحال أنه متى رأى أهل المغرب الهلال جليا، فإنه يراه أهل المشرق كذلك بلا فرق.

أما كون الشمس تغرب عن أهل المشرق ساعات عديدة والهلال يتبعها، فهذا معلوم ولن يغير من حكمة الرب في خلق القمر، فقد جرت العادة من الله أن الشهر يكون أحيانًا ثلاثين يومًا وأحيانًا تسعة وعشرين، وأن الله سبحانه قد رسم له في سيره ثماني وعشرين منزلة ينزل كل ليلة منها منزلة لا يتخطاها ولا يقصر دونها، ويقول علماء الفلك: إن بين كل منزلتين خمسًا وأربعين دقيقة، ثم يختفي عن أعين الناس ليلة أو ليلتين فلا يراه أحد، وما زعموه أنه من الممكن أن يرى بين الفجر وطلوع الشمس من جهة المشرق ثم يرى من ذلك بعد غروب الشمس من جهة المغرب، فإن هذا محال وغير ممكن ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ [يس: 40] وإنما قالوه قياسًا منهم على الرؤية الكاذبة، حيث يراه الناس وقبل طلوع الشمس واضحًا جليا، ثم يدعي أحد الكاذبين أنه رآه مساء ذلك اليوم، فالقياس على هذه الرؤية وهذه الدعوى من القياس الفاسد. فإن الهلال متى تقدم على الشمس في طلوعه من المشرق بعد الفجر، فإنه يغيب قبل الشمس بيقين. أما إذا تأخر عن الشمس في طلوعه من الفجر، فإنه يتأخر عن الشمس ثم يرى، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

وقال: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 38-40].

ولمّا كان أهل المشرق كمسلمي الهند وباكستان وأفغانستان وتركيا وسلطنة عُمان وبلدان الشيعة، لما كانوا يعتمدون الرؤية المحققة في صومهم وفطرهم رأيناهم يتفقون مع أهل المغرب بالرباط على صوم واحد وفطر واحد، كما صار عيد الجميع في هذا الزمان بالأربعاء، أي بعد عيدنا بيومين.

ولو اعتمدنا الرؤية المحققة لاتفقنا وإياهم على صوم واحد وعيد واحد. فأهلاً وسهلاً باليوم الذي يجمع شمل أهل الإسلام على عيد واحد كل عام.

وهنا قضية هي لنا بمثابة العظة والعبرة تنبئك عن الفرق بين الخبر والعيان، وذلك أننا في عام ماض صمنا رمضان تسعة وعشرين يومًا، وفي ليلة الثلاثين ورد علينا الخبر بأنه ثبت رؤية الهلال هذه الليلة فاعتمدوا صلاة العيد صبيحتها، فاحتسبنا ذلك وذهبنا إلى المصلى لأداء صلاة العيد، وبعد طلوع الشمس وارتفاعها رآها كل الناس مخسوفًا بها، وقد جرت العادة بأنه لا تكسف الشمس إلا في حالة الإسرار، أي يوم ثمانية وعشرين وتسعة وعشرين، وقال الفلكيون: إن سبب كسوفها هو توسط القمر بين الأرض والشمس.

كما أن القمر لا يخسف به إلا في حالة الإبدار، أي ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وأن سببه حيلولة الأرض بين القمر والشمس والله أعلم.

والحاصل أن هذا العيد وقع قبل أن يتم رمضان، وتكرر هذا بدون كسوف ولا خسوف، فبالله قل لي: هل استدعي هذا المدعي لرؤية الهلال وأدب على تغرير الناس في فطرهم في وقت صومهم؟ فإننا لا نسمع بتنكيله على كذبه، وقد قال الله في المنافقين: ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ [التوبة: 47] مما يدل على أن الكذب قد يروج على الناس حتى على الصحابة.

وقد كذَبوا حتى على الشمس أنها تهان إذا حان الطلوع وتُضْرَب، فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن عمر، قال: تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته فصام رسول الله ﷺ وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان. ومثله حديث ابن عباس: أن أعرابيا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال. فقال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهُ إِلَّا اللَّهُ؟». قال: نعم. قال: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟». قال: نعم. قال: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: بِأَنْ يَصُومُوا غَدًا». رواه الخمسة صححه ابن خزيمة وابن حبان والنسائي.

فالجواب: أنه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية في هذين الشخصين، إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأى الهلال، ثم رآه غيرهما، إذ ليس في الحديث أنه لم يره تلك الليلة غيرهما، وقد جرت العادة في الناس حينما يتراءون الهلال أنه يسبق أحدهم إلى النظر إليه، ثم يراه الثاني والثالث والخمسة والعشرة، فيشتهر وينتشر خبره، فاكتفي في الحديث بذكر ابن عمر عن غيره لشهرته بدليل أن النبي ﷺ لم يبعث إلى قرى المدينة ليخبرهم برؤيته اكتفاء بظهوره وشهرته. أضف إلى ذلك معرفة النبي بعدالة الشاهدين، ومن لك بمثل ابن عمر وهو الصحابي الجليل، أشبه الرجل يخبر القوم بطلوع الفجر، ثم يخبر به الثاني، ثم يكتفى بانتشاره وشهرته.

ومثله تحقق رؤية هلال ذي الحجة حتى لا يقع خلاف ولا نزاع في يقين يوم عرفة ويوم العيد.

ثم إن هذا الحديث مدفوع بما هو أصح منه وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «وإذا رأيتموه فأفطروا، وإن لم تروه فانظروا، فإن غم عليكم فاقدروا له».

فالحكم المطلوب هو تحقيق رؤية الشهر لا المسابقة إلى نشر الخبر، فمن أراد أن يقود الناس إلى متابعته في الصوم والفطر على بصيرة من الأمر، فإنه يستعمل التثبت والحيطة في الرؤية المحققة التي تشهد بصحتها أبصار الناظرين؛ لكون الحكم في هذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة، ولم يوجب الرسول ﷺ على أمته قبول أي شاهد يشهد برؤيته، وإنما أحالهم إلى حقيقة الرؤية، فقال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوْهُ فَأَفْطِرُوا» [278].

ولم يحلهم إلى قبول أي خبر يأتيهم من إحدى البلدان لا يعلمون صدقه من كذبه، مع كون الغالب على هذه الأقوال الكذب لقيام الدليل والبرهان على بطلانها من كون الناس كلهم لم يروه تلك الليلة ولا الليلة الثانية، ومن شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، خصوصًا لمن يتصدى لإصدار الحكم إلى جميع المسلمين في تعميم الصوم والفطر، فإنه يجب أن يتقي ربّه فيما تولاه فلا يحمل الناس في حكمه وفتواه على صيام شيء من شعبان ولا فطر شيء من رمضان، مع العلم أن جميع الدنيا بأسرها قد صارت في انتشار أخبارها بمثابة المدينة الواحدة، وصارت أقاليمها بمثابة الغرف المتجاورة، بحيث ينتشر خبر الحكم في الهلال في الدنيا كلها في دقائق أو في ساعة، وهو أمر يوجب قوة العزم والأخذ بالحزم مما يرجى أن يوفق هذا القائد لجمع شمل كافة أهل الإسلام على عيد واحد كل عام، وما ذلك على الله بعزيز، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[276] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [277] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [278] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.