متقدم

فهرس الكتاب

 

الرسالة الموجهة إلى العلماء والحكام في شأن رؤية الهلال

أرفع إلى العلماء الأعلام وإلى الحكّام الكرام وإلى قضاة شرع الإسلام هذه الرسالة الوجيزة التي تدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم؛ لأن من واجب العلماء التناصح في سبيل بيان الحق، والتواصي بما ينفع الخلق؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يُستمع، والمخلص في محبته هو من يجرع صديقه الدواء المرّ ليقيه من الوقوع في الضر. وإن النهي عما يجب إنكاره هو ما يقلل فشوه وانتشاره، ويبقى الود ما بقي العتاب.
ما ناصحتك خبايا الود من أحد
ما لم ينلك بمكروه من العذل
مودتي لك تأبى أن تسامحني
بأن أراك على شيء من الزلل
وبعد: فإن عيد الفطر من هذه السنة 1400هـ. قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين، حيث لم يره أحد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء، مما يستلزم بطلان هذه الشهادة، وقد تكرر مثل هذه الخطأ أعوامًا عديدة، إذ من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، والناس لم يروا الهلال إلا في الليلة الثالثة أي ليلة الأربعاء، رأوه صغيرًا جرمه ومنخفضة منزلته، كهلال أول ليلة من الشهر. وفي اللغة أن الشهر ليلة الثالثة لا يسمى هلالاً، وإنما يسمى قمرًا، وكان الصحابة يصلّون العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة. ذكره أبو داود في سننه حديثًا.

ومن قواعد الشرع أن الهلال متى رآه الناس، فإنه أول ليلة من الشهر، سواء أكان جرمه كبيرًا ومنزلته عالية أم لم يكن، لقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189].

فسمى الله الهلال هلالاً لارتفاع الأصوات برؤيته، كما سمي الشهر شهرًا لشهرته، لقوله سبحانه: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185].

لهذا يتبين لجميع الناس أن دعوى رؤيته بليلة الاثنين أنها كذب وزور، وأن الحكم بصحتها وقع خطأ، ويغفر الله لمن حكم بصحته.

وإن من شرط صحة الشهادة المقبولة كونها تنفك عما يكذبها، فمتى شهد أحد برؤية الهلال ليلة الاثنين ثم لم يره جميع الناس ليلة الاثنين ولا ليلة الثلاثاء، فإنه من المعلوم قطعًا أن الشهادة كاذبة، أو أن الشاهد توهّم رؤية خيالية حسبها هلالاً فكانت ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡ‍َٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡ‍ٔٗا [النور: 39].

وكثيرًا ما يقع الوهم والتخيلات في رؤية الهلال، ومتى كان الكذب موجودًا في الناس بكثرة، فإن من العجز الثقة بكل أحد، فاحترسوا من الناس بسوء الظن ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ [الحجرات: 6] أي تثبتوا.
ورُبَّ شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدولَهْ
يا معشر العلماء الكرام، ويا معشر قضاة شرع الإسلام، لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المتكرّر كل عام، ومن أجل كثرته عاد كالأمر المعتاد فلا يتحرّك لإنكاره أحد، على أن التدارك ممكن، والأخذ بالأمر اليقين متيسّر، والأخذ بالحزم هو من فعل أُولي العزم.

وإن المسلمين قد انقسموا في صومهم وفطرهم إلى قسمين:

منهم من يعتمدون على الرؤية المحققة التي يرونها بأعينهم في بلدهم وفي البلدان المجاورة لهم، فلا يعتمدون في صومهم وفطرهم إلا على رؤية جماعة من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب؛ فيدخلون في صومهم بيقين ويخرجون منه بيقين ولا يبالون بمن خالف رؤيتهم، وهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب، فهنيئًا لهم تقبل الله منا ومنهم حيث امتثلوا أمر الله سبحانه بقوله: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] وكذلك أمر رسوله ﷺ بقوله: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [272] وبحديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» متفق عليه من حديث ابن عمر.

والقسم الثاني: هم الذين يعتمدون في صومهم وفطرهم على أدنى خبر يأتيهم من إحدى البلدان بأنه رئي الليلة فيعلنون بالمذياع بأنه ثبت شرعًا رؤية الهلال ليلة الاثنين، وأن العيد صبيحة الاثنين، فيفطر الناس بدون أن يرى الهلال أحد، وحتى الليلة الثانية، فإنه لم يره أحد سوى إشاعة هذا الخبر الذي هو حقيقة في الكذب، فيصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان بناءً على هذا الخبر المكذوب، فيدخلون في صومهم ويخرجون منه على غير بصيرة من أمرهم، وهذا هو حقيقة ما عليه عمل البلدان العربية، حيث يقلد بعضهم بعضًا بدون رؤية ولا رَوِيّة. وقد قيل: «ليس المخبر كالمعاين» وهذه كلمة مأخوذة من حديث رواه الإمام أحمد أن النبيﷺ قال: «ليس المخبر كالمعاين، إن موسى أخبره ربه بأن قومه قد عبدوا العجل فلم يلق الألواح، فلما رآهم بعينه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه».

وإنني في ولاية عملي وفي محل قضائي أسير مع قافلة هؤلاء لكونهم مشايخي وأوسع مني علمًا، خشية أن أُرمى بجريمة الشذوذ عن الجماعة، ثم يطبّق عليّ وعيد من شذّ شذّ في النار، ثم أُسلي نفسي بالتأسي بغيري قائلاً: إن الإنحاء بالملام وتوجيه الآثام يقع على من تعمّد الحكم بالخطأ ودعا الناس إلى متابعته وإلى العمل به بدون تثبت ولا تريث ولا عمل باليقين، وليس الشك كاليقين.

فيا معشر علماء الفقه في الدين، إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه قد نصب للناس علامات جلية ظاهرة يهتدون بها في صومهم وفطرهم، فنصب الهلال في السماء ليكون علامة ساطعة لجميع الناس في البر والبحر، وفي الحضر والبادية، وللرجال والنساء، وأكد الاهتداء به بقوله سبحانه: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وكما سماه شهرًا لشهرته فقال: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] فمتى طلع الهلال على الحقيقة، فإن الناس كلهم يرونه، أهل المشرق كأهل المغرب.

وقد عقب النبي ﷺ على هذا بما يقتضي تأكيده، فقال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» ومثله حديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» رواهما البخاري.

وهذا الحديث فيه الزجر بالنهي عن الصوم أو عن الفطر قبل تحقق الرؤية. والخبر بأن فلانًا رآه في بلد كذا لا يصدق عليه أن الناس قد رأوه، لكون الخبر يحتمل الصدق والكذب، والغالب على دعوى رؤية الهلال الكذب لوقوع التوهم والتخيلات في الرؤية.

إننا متى أهملنا اليقينيات من هذه النصوص البيّنات فإننا لا بد أن نقع في المتاهات والجهالات الناتج عنها سوء التصرف في الصوم والفطر، ومتى ساء التصرف ساء العمل وساءت النتيجة، ثم نكون عرضة للطعن علينا بعدم العمل بكتاب ربنا وسنة نبينا.

إن الهلال لن يُطلب من جحور الجرذان والضبان، بحديث يراه واحد دون الناس كلهم، وإنما نصبه الله في السماء لاهتداء جميع الناس في صومهم وحجهم وسائر مواقيتهم الزمانية: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وما كان ميقاتًا للناس لزم أن يشاهدوه جليا كمشاهدتهم لطلوع الفجر عندما يريدون الإمساك للصوم وعندما يريدون صلاة الفجر، وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

فيا معشر علماء الإسلام، أنقذونا وأنقذوا أنفسكم وأنقذوا الناس معكم من هذا الخطأ المتكرر كل عام، حتى صار عند أكثر الناس من المألوف المعروف.

فابنوا أمركم في صومكم وفطركم وحجكم على التثبت واليقين الذي لا يعتريه الشك في حقيقة رؤية الهلال في بلدكم، بشهادة عدد من العدول الثقات، واتركوا عنكم تناقل الأخبار من البلدان بأنه رآه فلان وفلان مما يكذبها الحس والواقع من عدم رؤية الناس تلك الليلة ولا الليلة الثانية، مما يدل على كذب تلك الشهادة، إذ إن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها، وأنه متى تم العمل بنظام ما ذكرنا فإننا نكون عاملين في صومنا وفطرنا على اليقين، ويترتب على ذلك صوم جميع أهل الإسلام وعيدهم في يوم واحد كل عام، متى تم بناء نظام العمل في الصوم والحج، فإنّ جميع الناس سيكونون تبعًا لحكومة المملكة العربية السعودية؛ إذ أكثر المسلمين الذين يسكنون بريطانيا وفرنسا وأمريكا، كلهم أو أكثرهم يراقبون خبر الهلال بالمملكة العربية السعودية حرسها الله تعالى.

* * *

[272] متفق عليه من حديث أبي هريرة.