متقدم

فهرس الكتاب

 

عملية التمهيد لجمع الناس على الصيام والعيد

إنه ينبغي لنا أن نعمل عملنا فيما يعود بالصلاح على أمتنا وأهل ملتنا، من كل ما يقضي بتخفيف هذا الاختلاف والافتراق، ويستدعي الاجتماع والاتفاق بأمر يقتضيه الحزم وفعل أولي العزم ولا ينفيه الشرع، وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في اتباع المأثور وامتثال المأمور الثابت عن رسول الله ﷺ حيث قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»، وفي قوله: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِيْنَ»، وكلها أحاديث صحيحة.

وبما أن أهل المدن والعواصم لا يحتفلون برؤية الهلال غالبًا ولا يتفرغون للترائي ويمنعهم عدم صفاء الجو من كثرة الغبار والدخان وارتفاع البنيان، فهم يتكلون على غيرهم في استهلال الشهر وقت التحري لطلوعه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الغفلة تغلب على أكثر الناس وإنما يراقبون خبره عن طريق الإذاعة فقط لا عن طريق الرؤية، لهذا فإن من الحزم وفعل أولي العزم تعيين لجنة استهلالية تشتهر بهذا الاسم أو باسم لجنة مراصد الأهلة أو غير ذلك من الأسماء اللائقة بعملها، وتكون هذه اللجنة من العدول الثقات المعروفين بالدين والعقل وقوة النظر ولا يقلون عن عشرين شخصًا، يتفرقون في الجهات كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص ليقوي بعضهم بعضًا بالنظر، وإنما قلنا بتفريقهم في الجهات خشية أن يخيم الغيم على جهة فيتحصلون على الصحو في الجهة الأخرى فيتم المقصود بذلك. فهؤلاء يرصدون الهلال وقت التحري لطلوعه.

ويكون مقرهم بمكة المكرمة، مكان خيرة الله لبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا والذي هو أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل، فهذا هو مقرهم، وأما تنظيم أمرهم وإصدار القرارات الصادرة منهم في إبلاغ إثبات الأهلة وغيرها فيكون عند الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فهي التي تتولى تنظيم أمرهم، فهذه اللجنة الاستهلالية يصرفون جهدهم في رصد الهلال وقت التحري لطلوعه، فإذا رأوه حكم بصحة رؤيتهم وصام الناس وأفطروا على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم.

ويمكن لأئمة المسلمين وقضاتهم أن يصدروا حكمًا للعمل برؤيتهم فيصير حجة على الجمهور من سائر الأقطار الإسلامية التي تتفق مطالعها، وإن لم يروه ترجح عدم استهلاله فلا يلتفتوا إلى أي خبر يأتيهم من أي بلد لرجحان عدم ثباته، اللهم إلا أن يثبت ثبوتًا شرعيا قطعيا بشهادة عدد من العدول الذين لا يمكن اتفاقهم على الكذب، كما روى أهل المدينة عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذين وقعت فيهم الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك. ذكره في بداية المجتهد.

وهذا العمل بهذه الصفة هو مما يزيد المسلمين ثقة ويقينًا واطمئنانًا، ولو عمل المسلمون عملهم في التوثق واليقين في دخول الشهر وخروجه بصفة ما ذكرنا لنجحوا في مهمة الاتفاق من جميع الآفاق.

وأما إذا خيم الغيم على هلال شعبان وأشكل الأمر على الناس فظاهر مذهب الحنابلة في ذلك معروف، وهو أنهم يحسبون تسعًا وعشرين من شعبان ثم يصومون اليوم الثلاثين، حكمًا ظنيا احتياطًا أنه من رمضان، ويستدلون على ذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ» وفسر ابن عمر «فَاقْدُرُوَا لَهُ» بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين يومًا، وقد خالف في ذلك من خالف من علماء الحنابلة، إذ ليس القول بهذا متفق عليه عندهم.

أما الجمهور، فإنه عند الغيم يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا، سواء كان الغيم في هلال شعبان أو في هلال رمضان، وكذا لو غم الذي قبله فإنهم يعملون بإكمال العدة ثلاثين من كل شهر وهذا هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» ولمسلم «.. فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا».

وكان سبب اختلافهم هو الإجمال في قوله: «فَاقْدُرُوَا لَهُ» حيث فسره من فسره بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين، كما هو رأي ابن عمر رضي الله عنه، وذهب الجمهور إلى أن معناه إكمال العدة ثلاثين، واستدلوا له بالأحاديث المفسرة له بإكمال العدة ثلاثين.

أما تفسيره بالتضييق عليه، فإن فيه بعدًا في اللفظ والمعنى ولم يثبت رفعه إلى الرسول ﷺ بهذا اللفظ، ويكفي في رده الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين، فقد ثبت رفعها وهي مفسرة لقوله: «فَاقْدُرُوَا لَهُ» فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة معروفة عند الأصوليين لا خلاف في جواز استعمالها، إذ ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلاً، والمفسر مقدم على المجمل.

وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الناس في هذه القضية تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، لحديث: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب، لكون القضية موضع اجتهاد وللإمام مجال في الاجتهاد فيها.

أما المسلمون المقيمون أو الساكنون في إنجلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا، وسائر بلدان أوروبا التي تغمرها الغيوم المتواصلة دائمًا، بحيث لا يرون فيها الشمس إلا نادرًا، فضلاً عن الهلال فإن هؤلاء يكونون تبعًا للجنة الاستهلالية وللبلدان العربية في الصوم والفطر كسائر جماعة المسلمين، إذ هذا هو غاية جهدهم في معرفة وقت صومهم وفطرهم لحديث: «الصَّوْمُ يَوْمَ يَصُوْمُ النَّاسُ، وَالفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» [271]. والناس هم جماعة المسلمين.

وفي الختام، فإن هذا هو نهاية ما حضرني من الكلام في إيراد النصوص والأحكام المتعلقة بشأن الهلال وشهر الصيام وعيد الإسلام، وهي جواب عن رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عليه السلام، كما أنها هدية دينية للخاص والعام، وإني أرجو أن تقع بموقع القبول والرضى من علماء المسلمين الذين لهم لسان صدق في العالمين، وقدم راسخ في الفقه في الدين وقلم خالص في النصح لله وعباده المؤمنين، ولا أقول ببراءتي فيها من الخطأ والتقصير، غير أنني لدى الحق أسير، إذ ليس كل قائل خبير ولا كل ناقد بصير سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد البشير النذير وعلى آله وصحبه أجمعين.

جرى تحريره في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، عام ثلاثة وتسعين بعد الثلاثمائة وألف.

28 ذي القعدة سنة 1393 هـ.

[271] أخرجه الترمذي من حديث عائشة.