متقدم

فهرس الكتاب

 

رفع النزاع الواقع في اختلاف المطالع

إن مطالع الهلال متفقة ومتقاربة في البلدان العربية وسائر البلدان التي يسكنها المسلمون، وذلك بمقتضى المشاهدة والتجربة وتناقل الأخبار من بين سائر الأقطار.

وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع فيما بين الشام والحجاز وفيما بين مصر والعراق، فيترجح بأن هذا التحديد جرى منهم على حسب الاجتهاد، يؤجرون عليه ولا يلزم التقيد به لكونه جرى منهم بدون تجربة ولا مشاهدة، فظنوا وقوع التفاوت في المطالع بين هذه البلدان فقالوا بموجبه على سبيل الفرض والتقدير لصعوبة المواصلات في زمنهم وتعذر الاتصالات من بعضهم مع بعض.

أما في هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات، فقد صارت الدنيا كلها بأسرها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون فيما بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب، ويسأل بعضهم بعضًا عن الهلال وقت طلوعه فيخبره بما يوافق في بلده فعلموا بذلك عدم التفاوت في المطالع بين سائر البلدان العربية، لكونها من الأمور الحسية التي تدرك بالمشاهدة والتجربة، فضعف القول باختلاف المطالع في هذا بعد وقوفهم على عدم صحته.

يحققه أن بعض الأقطار المتباعدة، مثل: بلدان سلطنة عمان وفارس وباكستان والهند، بما فيها من المسلمين أنهم إنما رأوا هلال شوال من هذه السنة ليلة الأحد وصار عيدهم بالأحد، وعندنا لم يره الناس رؤية صحيحة ثابتة إلا ليلة الأحد ليلة رآه أهل الهند وباكستان، ولا عبرة بما قيل من رؤيته قبلها بناء على الأوامر الصادرة عليهم بالفطر، فإننا إنما نتكلم على الرؤية الثابتة المعترف بصحتها. وإن رؤيتنا لهلال شوال توافق رؤية فارس والهند وباكستان على حد سواء، غير أنه قد يختلج في نفوس بعض الناس شيء من الشك في ذلك حينما يرى ويسمع أن الشمس تغرب في بعض البلدان غير الوقت الذي تغرب فيه في البلدان الأخرى، كما أنها تغرب في الشام والعراق قبل غروبها في الحجاز، وتغرب في باكستان والهند قبل غروبها في نجد والحجاز بعدد ساعات. فيظنون أن اختلافها في مشارقها ومغاربها أنه مما يتغير به مطلع الهلال تبعًا لها، وهذه هي الشبهة التي جعلت الفقهاء المتقدمين يقولون باختلاف المطالع، وفات عليهم بأن الله سبحانه خلق القمر ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم في صومهم وحجهم، فهو آية من آيات الله في استهلاله وإبداره واستسراره، ومسخر من الله لمصالح عباده، فهو يساير الشمس حسبما يراه الناظرون وإلا فإن فلكه غير فلكها.

وعند اقتراب انقضاء الشهر، فإنه يقرب منها كالملازم لها أحيانًا، يطلع صباحًا من جهة الشرق قبلها فيغيب قبلها فلا يراه أحد في أي بلد، وأحيانًا ينحسر عنها ويتخلف منها، فتطلع قبله وتغيب قبله، فمتى بعُد من شعاعها على قدر ما يتمكن من رؤيته الناظرون فإنهم حينئذ يرونه في كل بلد، كما أنه لا يتغير طلوعه في حال قصر الليل ولا طوله؛ لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس، وما كان كذلك فإنه لن يختلف بحال ولا يتغير في محل دون محل، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «صَوْمَكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرَكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رواه الترمذي.

والخطاب في هذا لجماعة الناس، فليس منشأ الخلاف بين الناس من مطلع الهلال، وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، فإن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره وقوة النظر وضعفه، والاستعداد لمراقبته وقت التحري له من جهة مطلعه وعدم الاستعداد لذلك، ثم التثبت لصحة الرؤية وعدم التثبت فيها، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال، وهذا الاختلاف يقع من قديم الزمان بين البلدان المتجاورة كما يقع بين البلدان المتباعدة، وسببه معقول كما ذكرنا.

ثم إن القول باختلاف المطالع من لوازمه أن شهر رمضان الذي افترض الله على عباده صيامه بكماله أنه يتنقل من بلد إلى بلد؛ فيكون أول رمضان في إحدى الأقطار بالجمعة وفي القطر الثاني بالسبت وفي القطر الآخر بالأحد، وهذا لا يكون أبدًا حتى ولو قدر وقوعه فعلاً بناء على التثبت في الرؤية وعدم التثبت فيها ووقوع الغيم في جهة والصحو في الجهة الأخرى، وغير ذلك من الأعذار المقتضية لاختلاف الناس في الدخول في الصيام والخروج منه، لكن الأمر الصحيح أن رمضان الذي افترض الله صومه على عباده هو معلوم العدد والحدّ تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين ومعلومة حدوده في دخوله وخروجه، لا يتنقل أبدًا، أما كون الناس يختلفون في التثبت في رؤيته وعدم التثبت، فإن هذا أمر واقع ولا يغير شيئًا من صفاته التي رتبها الله عليه في قوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5].

فكما أنه لا يتغير من بلد إلى بلد في حالة مطلعه واستهلاله، فكذلك لا يتغير في كل قطر عن حالة إبداره، فكل الدنيا تتفق على حالة الإبدار التي يعرفون بها هيجان البحر واضطرابه وانتفاخه في سائر الأقطار وذلك ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقد زعموا أن هذا الاضطراب وهيجان البحر أنه من تأثره بالقمر، والله أعلم.

ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا اتسعت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، وكانوا هم الملوك والأمراء في مشارق الأرض ومغاربها وفي ممالك كسرى وقيصر وغيرها، فكانوا يتراسلون ويتساءلون عما يلزم من الأحكام وأمور الصيام. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراءه وعماله بأن يلقوه بموسم الحج بمكة كل عام فيسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله وشؤون بلده.

ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن أحد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لمّا قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه. فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يومًا. فقال كريب: ألا تكتفي برؤية أمير المؤمنين؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ. وكأنه يشير إلى حديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [265] وحديث: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوَا لَهُ ثَلَاثِينَ»» [266]، وهذا الرأي وهذا العمل وقع من ابن عباس رضي الله عنه موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد ألا يخرج من الصوم المفروض إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر، ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة.

ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على أنه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقًا للحنابلة، بل قد نصوا أيضًا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يومًا فلم يروا الهلال، فإنه يجب ألا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا واحدًا وثلاثين يومًا. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما. وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس رضي الله عنه.

ثم إن الكثيرين من شرّاح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان، احتياطًا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال: إنه رئي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا ثابتًا ولا كون الرائي عدلاً صادقًا، اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعه في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قُطر وكل إقليم برؤيته بنفسه، والله أعلم.

[265] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [266] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.