رؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده
وأما قول الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: وإن رئِي الهلال نهارًا فهو لليلة المقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده قاله في الإقناع، ومختصر المقنع وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فهذا القول جرى من الفقهاء على سبيل الفرض والتقدير لكونهم يقدرون دائمًا ما لا يقع على فرض وقوعه، فهم يقدرون رؤيته نهارًا لعارض يعرض في الجو، بحيث يقل ضوء الشمس فيمكن لقوي النظر رؤيته، وهو تقدير يبعد وقوعه جدًّا، رؤيته قبل الغروب مستحيلة وغير ممكنة ولو فرض وقوعها فإنه لا تأثير لها في حكم إثبات الصيام بها، وقد أنكر هذا التقدير بعض الفقهاء وعدُّوه من الأمر المستحيل لعدم إمكان وقوعه؛ لكون الهلال لا يُرى رؤية صحيحة إلا بعد غروب الشمس وذهاب شعاعها، كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وحتى صاحب كشاف القناع في شرح الإقناع[264]، استدرك على الفقهاء القول به، قائلاً: إنه لا أثر لرؤية الهلال نهارًا وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب. قال: ولعله مراد أصحابنا لظاهر الخبر السابق فعلم منه أن الرؤية قبل الغروب لا تأثير لها.. انتهى.
والخبر السابق الذي أشار إليه هو ما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية. رواه الدارقطني، وهذا الأثر عن عمر دليل واضح على عدم الاعتبار برؤية الهلال في النهار، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وأنه لا يعتد به على فرض وقوعه، وقد قال في بداية المجتهد: إن سبب اختلافهم في حكم رؤية الهلال بالنهار هو ترك اعتبار التجربة وليس في ذلك أثر عن النبي ﷺ يرجع إليه. وحكى عن القاضي قائلاً: الذي يقتضيه القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب، لكون المعتمد في ذلك على التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتمد في ذلك مغيب الشمس أول مغيبها.. انتهى.
* * *
[264] من أشهر كتب الحنابلة، لمؤلفه منصور بن يونس البهوتي.