متقدم

فهرس الكتاب

 

موانع الرؤية للهلال بمقتضى سنة الله الجارية في خلقه

إن الهلال آية من آيات الله في استهلاله وفي إبداره وفي استسراره، وقد جعل الله له علامات يعرف بها إمكان رؤيته وعلامات يعرف بها تعذر رؤيته، كما جعله تارة ثلاثين وتارة تسعًا وعشرين، وقد قال بعض الصحابة: صمنا مع النبي ﷺ تسعًا وعشرين أكثر ما صمنا ثلاثين [260]. والرؤية الصادقة الصحيحة تصدق ذلك أو تكذبه، فهي أصح العلامات للعمل به، لحديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» [261]، وقال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» [262].

ومتى رئِي الهلال ابتدأ حكم به لأول ليلة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كانت منزلته مرتفعة أو منخفضة، لأن أجلى الحقائق ما شوهد بالعيان.

أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به، فمن أهمها كونه يرى صباحًا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق، ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع المستحيل قطعًا، بمقتضى الحس والتجربة والعادة الجارية في سنة الله، حتى ولو كان أقوى نظرًا من زرقاء اليمامة، فلا تتفق رؤيته صباحًا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.

وقد أجرى الله العادة في خلق القمر أنه يظهر لأبصار الناس في ثمانية وعشرين يومًا من الشهر لحلوله في ثمانية وعشرين منزلاً، ثم يختفي عن أبصار الناس يومين إن كان تاما ثلاثين أو يومًا واحدًا إن كان ناقصًا، أي تسعة وعشرين.

فهذا الاختفاء والاستسرار في اليومين أو اليوم لا بد منه كما هو متفق عليه عند أهل العلم وأهل الحساب والجداول والمفسرين وعلماء اللغة وبعضهم قال بجواز اختفائه ثلاثة أيام.

ويسمى هذا الاختفاء للهلال: السرار والاستسرار واجتماع النيرين والمحاق وغير ذلك من التسمية الجارية على ألسنة العرب، فمتى رأوه صباحًا طالعًا نيرًا، عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء من ذلك اليوم أبدًا، بمقتضى العادة التي أجراها الله فيه.

وما يدعيه بعض أهل العلم من إخواننا في زماننا من القول بجوازه، وعدم امتناعه كما سمعنا به من بعضهم ويجادلون في إثباته، فهو قول لم يستند إلى إثبات لا بطريقة المشاهدة ولا التجربة، ويترجح أن هذا القول إنما خرج منهم مخرج الظن والتخمين بدون علم ولا يقين وبدون مشاهدة ولا تجربة، وذلك لا يُغني عن الحق شيئًا.

وكأنهم في نظرهم ومناظرتهم بنوا أمرهم على الشهادة المزيفة برؤية الهلال حيث يراه الناس صباحًا، ثم يشهد بعضهم برؤيته مساء، فبنوا أمرهم ورأيهم على هذه الشهادة الكاذبة وجعلوها لهم بمثابة القاعدة وهي بلا شك من باب قياس الفاسد على الفاسد.

وسنورد من الأدلة ما يوضح امتناع ذلك وعدم إمكانه بمقتضى سنة الله في خلقه:

قال البغوي في تفسيره على قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرين منزلاً وأسماؤها: الشرطان والبطين والثرياء والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم والفرغ المؤخر والرشاء.

قال: فينزل القمر كل ليلة منزلاً منها ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.

وقال القرطبي في تفسيره على الآية وعلى قوله: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ. قال: إن الله سبحانه قدر للقمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر منها كل ليلة بمنزلة ويومان للنقصان والمحاق، ثم ساق عدد النجوم الثمانية والعشرين ينزل في كل ليلة منها ثم يستتر.

وقال ابن كثير في تفسير سورة نوح: قدر الله للقمر منازل وبروجًا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهر.

وقال الخطيب الشربيني في تفسيره: أنوار التنزيل، قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها: الشرطان والبطين.. إلخ.

قال: وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجًا لكل برج منزلان وثلث، فينزل القمر منها كل ليلة منزلاً، ثم يستتر ليلتين إن كان ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.

وقال في تفسير المنار على الآية المذكورة:

قال: إن الله قدر للقمر في سيره في فلكه منازل ينزل كل ليلة في منزل منها لا يخطئه ولا يتخطاه، وهي ثمانية وعشرون معروفة تسميها العرب بأسماء النجوم المحاذية لها، وهي ثمانية وعشرون: الشرطان والبطين... وذكر بقية النجوم، ثم قال: فهذه المنازل الثمانية والعشرون هي التي يُرى فيها القمر بالأبصار، ثم تبقى ليلتان إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين يحتجب فيها عن الأبصار فلا يُرى أبدًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

قال: إن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستتر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد نوره كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها، ولهذا يقولون: الاجتماع، وأهل الحساب يسمونه اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، كما يعرف بذلك وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، كما أن القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار لحؤول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف تدرك بالحساب الصحيح.

قال: وأهل الحساب يرون بأنهم يعرفون طلوع الهلال بأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها بعشر درجات أو أقل أو أكثر، أما كونه يرى أو لا يرى فهو أمر حسي طبيعي يحققه وجوده وليس حسابيا، والأمر الشرعي في الصوم والفطر إنما يترتب على الرؤية المحقة لا على الحساب. انتهى[263].

وقال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن، قال: والسرار هو اليوم الذي يستسر فيه القمر آخر الشهر. وقال في النهاية لابن الأثير: قال الأزهري: يقال سرار الشهر وسرره وهو آخر ليلة استسر فيها الهلال بنور الشمس وقال في مختار الصحاح: استسر القمر أي خفي ليلة السرار وربما كان ليلة وربما كان ليلتين.

وقال في لسان العرب: استسر القمر إذا خفي ليلة السرار، وربما كان ليلة وربما كان ليلتين، قال الشاعر:
نحن صبحنا عامرًا في دارها
عشية الهلال أو سرارها
قال: وحكي عن الكسائي وغيره، أنه قال: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال.

وقال أبو عبيدة: وربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين.. انتهى.

وبهذا يتبين أن استسرار القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين أنه من الأمر الثابت شبه المجمع عليه عند المحققين من سائر العلماء، وقد أجرى الله العادة به واستقر في نفوس الناس معرفته، فمتى رآه الناس صباحًا عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء أبدًا ولا تنخرم هذه العادة التي هي بمثابة القاعدة، بدعوى الرؤية الكاذبة، وما كل ما يقال: إنه رئِي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا واقعًا لوقوع الفرق شرعًا وعرفًا بين الخبر واليقين، والله أعلم.

* * *

[260] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود. [261] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [262] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [263] من رسالة بيان الهدى من الضلال في شأن الهلال - ص 33.