من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها
إن الله سبحانه يقول: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ كما قال: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾، فأمر بإقامة الشهادة لله كما أمر بإقامة الصلاة لله، وإقامة الشهادة هي أن تأتي بها مقوّمة معدلة غير مائلة ولا مزيفة، بل تشهد على حقيقة ما رأيت وسمعت بثبت وإتقان من غير زيادة ولا نقصان، كما في الحديث: «عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ» [258].
والشهادة على الهلال هو مما يكثر الاشتباه فيها دائمًا، بحيث يخيل للشخص أنه رأى شيئًا ولم يكن شيئًا، كما علم بالقطع كثرة وقوع ذلك.
فإذا انحصرت الشهادة على رؤية الهلال في واحد أو اثنين من بين مجموع الناس، فإنها شهادة ظنية ليست يقينية، تشبه الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فهي لا تفيد اليقين قطعًا، لاسيما إذا كان هذا الشاهد أو الشاهدان ممن لا تعرف ثقتهما ولا عدالتهما، إذ ليس الخبر كاليقين ولم يقل أحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا فقهاؤهم: إنه يجب تصديق خبر مدعي الرؤية وإن لم تعلم عدالته.
لاسيما في هذا الزمان الذي ضعفت فيه الأمانة وفاض فيه الغدر والخيانة، وحاول الكثير من المنافقين أن يتلاعبوا بالدين ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ﴾ [التوبة: 47] والمنافقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن، ﴿لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ﴾ [آل عمران: 118] فكان أحدهم يشهد برؤية الهلال في وقت مستحيلة رؤيته فيه، وهذا مما يؤكد بطلان شهادتهم ووقوع التساهل في الحكم بها، كما شهدوا في زمان فات برؤية هلال شوال وأُمر الناس بالفطر فأفطروا، وعند خروجهم إلى مصلى العيد لصلاة العيد انكسفت الشمس والناس في مصلى العيد!! ومن المعلوم أن الشمس لا يكسف بها في سنّة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، أي ليالي الإسرار، كما أن القمر لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار، أي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، كما حقق ذلك أهل المعرفة بالحساب وعلماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة وأبطل ما يعارضه.
فالاستمرار على هذا الخطأ الناشئ عن الشهادات المزوّرة لا يجيزه النص ولا القياس، ولن نعذر عند الله وعند خلقه بالسكوت عنه.
ثم إن الناس في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، وصار كل واحد مقبول الشهادة على خاصة الهلال، وبناء على هذا التسامح أخذ بعض الناس يتسابقون إلى ادعاء رؤية الهلال بدون تثبّت ولا يقين، فدخل الخطأ على الناس في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان، بناء على شهادة من لا يعرفون عدالته ولا ثقته.
من ذلك، أنه جاء الخبر من إحدى البلدان برؤية هلال شوال من هذه السنة ليلة الجمعة، وأن يوم الجمعة هو العيد فضجت الأصوات من الإذاعات يأمرون الناس بالفطر يوم الجمعة، لاعتبار أنه العيد، فأفطر الناس، وفي الليلة الثانية التي هي ليلة السبت، اجتهد الناس لرؤيته فلم يروه قطعًا، وفي الليلة الثالثة التي هي ليلة الأحد رآه أفراد من الناس الحادة أبصارهم رأوه ضعيفًا، وقد سبره عدد من العقلاء الرؤساء حتى غاب في خمس وعشرين دقيقة، وبعضهم قال: في ثلاثين دقيقة. وهو الليلة الثالثة على حسب هذه الشهادة!!
وكان الصحابة يصلون مع رسول الله ﷺ صلاة العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة، كما في سنن أبي داود عن النعمان بن بشير، أنه قال: أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله ﷺ يصليها سقوط القمر لثالثه.
لهذا اضطرب الناس من هذه الشهادة، وعرفوا تمام المعرفة أن يوم الجمعة من رمضان وكذا يوم السبت على الراجح، وأخذوا يسألون عن قضاء هذا اليوم أو اليومين، هل يجب أو يستحب أو لا يجب ولا يستحب؟!
وهذه المسألة ترجع إلى قضية من أفطر في نهار رمضان، يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، وقد وقعت هذه القضية على الصحابة رضي الله عنهم كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني عبد الله بن شيبة، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا على عهد النبي ﷺ يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أفأُمروا بالقضاء؟ قال: لابد من قضاء. وقال معمر: سمعت هشامًا قال: لا أدري أقضوا أم لا.
قال في فتح الباري: اختُلف عن عمر في ذلك فروي عنه ترك القضاء قائلاً: لم نقضِ، إنا لم نتجانف الإثم.
وروى مالك عنه أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا.
وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: نقضي يومًا.
وروى سعيد بن منصور عنه: وفيه: من أفطر منكم فليصم يومًا مكانه. قال: وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة... انتهى.
وظاهر المذهب وجوب القضاء لكون الأصل بقاء النهار، وحكى في الإفصاح اتفاق الأئمة على وجوب القضاء.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم القضاء لدخوله في عموم قوله: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ» [259]. انتهى. وكما لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع فتبين أنه طالع فلا قضاء عليه في ظاهر المذهب.
وقد نص الفقهاء على أنه لو وقف الناس بعرفة اليوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح، لقول النبي ﷺ: «الحج يوم يحج الناس»، وهذا يوم حج الناس على حسب اجتهادهم، كما لو اجتهد إنسان فصلى ثم تبين أنه صلى إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها، لكون المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر الذي يسعهم العلم به، فإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلا حرج عليهم، أشبه بالقاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر.
* * *
[258] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [259] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذر الغفاري.