متقدم

فهرس الكتاب

 

[رد سماحة الشيخ على الرسالة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ إلى كافة الناس عربهم وعجمهم بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أمور الناس أحسن نظام في عباداتهم وأعيادهم ومعاملاتهم وسائر أمور الحلال والحرام، وساوى في التكليف بهذا الدين بين سائر الناس الخاص منهم والعام، فلم يجعل عبادة أحد منهم مقيدة ولا مرتبطة بأمر الآخر ولا إرادته.

ومن حكمته وشمول رحمته، أن جعل العبادات في الإسلام متعلقة بالظهور والمشاهدة والأمر الجلي الواضح الذي لا خفاء فيه، فوقت صلاة الفجر يعرف بطلوع الفجر وانتشاره، ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر.

ويعرف وقت صيام رمضان برؤية الهلال باديًا للناظرين، فإن لم يُر مع الغيم فبإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا وكذلك شهر الحج.

يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، وسبب هذا السؤال على ما رواه أبو نعيم، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة؟ فأنزل الله ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، فنقلهم سبحانه عن السؤال عن الذات إلى الإخبار بالصفات، كأن الله تعالى قال: إنه لا فائدة ولا مصلحة لكم في البحث عن جرم الهلال، وإنما عليكم أن تنظروا إلى الحِكَم والمصالح المترتبة على الهلال، حيث جعله الله ميقاتًا لصيام الناس وحجِّهم وعِدَدِ نسائهم وإيلائهم وحلول ديونهم[248] وبه تعرف أشهر الحج والأشهر الحرم التي حرّم الله القتال فيها، سواء كان التحريم باقيًا أو منسوخًا.

فالتوقيت بالأهلّة هي المواقيت المشهورة لجميع الناس منذ خلق الله الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ [التوبة: 36]؛ لأن التوقيت بالأهلة يسهل على جميع الناس معرفتها، العالم بالحساب والجاهل به والبدوي والحضري والكاتب والأمِّي، لكون الهلال أمرًا مشهورًا مشهودًا به مرئيًّا بالأبصار، وأجلى الحقائق ما شوهد بالعيان، إذ ليس المخبر كالمعاين، ولهذا سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي شهرًا لشهرته، إذ الرؤية للهلال واشتهاره بمثابة الفجر وانتشاره. وقصد الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بدخوله وخروجه، إذ هو بمثابة الصُّوى والمنار الذي يعرف به، حيث قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ».[249] وقال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ»[250] لقصد التعبد بالوظائف الواجبة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بخلاف الشهور الشمسية، فإنه لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب ويجهلها أكثر الأميين من الحضر وكل البوادي ولا يترتب عليها شيء من التعبدات أبدًا.

لهذا لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب، كحساب الجداول وغيرها، لكون الحساب مبنيا على الظن والتخمين لا على العلم واليقين، فهم في إجراء عملية الحساب يجعلون شهرًا كاملاً وشهرًا ناقصًا إلى نهاية السنة، ومن المعلوم أن تمام الشهر ثلاثون قد يتوالى في شهرين وثلاثة، والنقص في الشهر وكونه تسعًا وعشرين قد يتوالى في شهرين وثلاثة فينتقض بذلك نظام حسابهم، كما نرى وقوع الخطأ في التقاويم، حيث يقول بعضهم: إن أول الشهر يوم كذا، وبعضهم يقول: يوم كذا[251].

إن أعظم مقاصد القرآن الكريم والشرع الحكيم في التوقيت بالأهلّة هو اتفاق الأمة في عباداتهم من صيامهم وحجهم وأعيادهم ما أمكن الاتفاق، إذ هذا من السهل الميسر، متى سلكوا مسالكه وأخذوا بعزائمه.

فلو جرى المسلمون على نصوص الكتاب والسنة في إثبات الأهلة بطريق اليقين من الرؤية؛ بأن يراه عدد من العدول المعروفين بالأمانة والصدق فيصومون برؤيتهم، ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمر دينهم لكان أفضل في حقهم من هذا الاختلاف الواقع بينهم في صومهم وأعيادهم؛ لأنهم في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة على خاصة الأهلة، وصار كل شاهد بالهلال مقبول الشهادة بدون أن يعرفوا ثقته وعدالته، ونجم عن هذا التساهل أن صاروا يشهدون به في وقت مستحيلة رؤيته فيه، ويشهدون به الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية، ما يحقق بطلان شهادتهم، فدخل على الناس بسبب هذا التساهل شيء من الخطأ في هذه العبادة، فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان.

وبسببه وقع الاختلاف بين أهل الإسلام في صومهم وعيدهم؛ لأنه متى كان بعض أهل الإسلام يعتمدون في صومهم وعيدهم على الرؤية المحققة التي يشهد بها عدد من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم؛ فهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب في هذه القضية.

وبعضهم يعتمدون في صومهم وفطرهم على أي خبر يأتيهم من أي بلد عن طريق الإذاعة فيقبلونه على علاته ويعملون به في صومهم وفطرهم، فإن هذا بلا شك من لوازمه الافتراق وعدم الاتفاق، كما يشهد به الواقع المحسوس.

فلو عملوا عملهم في التوثق في الشهادة فلم يدخلوا في صوم رمضان ولم يخرجوا منه إلا باليقين الثابت من الرؤية الصادقة التي يشهد بها عدد من الثقات العدول، كما نص على ذلك جمهور فقهاء المسلمين، لحصل حينئذ الاتفاق، وزال عن الناس هذا الافتراق، إذ الرؤية المحققة الصحيحة تجمع أهل الإسلام من شتى البلدان فيراه أهل الشام ومصر والعراق والمغرب كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، وكما يراه أهل فارس وباكستان والهند.

وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع بين هذه البلدان، فإنما قالوه بمحض الاجتهاد يؤجرون عليه، لكنه بمقتضى المشاهدة والتجربة يترجح عدم صحته، وأن التفاوت في مطلعه بين هذه البلدان منتف، فيراه أهل الشام والعراق ومصر كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، لا يتغير عن مطلعه ولا يختلف عن حالته لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم، يعرفون به وقت صومهم وحجهم ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ [البقرة: 189] وما كان كذلك فإنه لا يتغير بحال ولو جربوا لعرفوا صحة ذلك.

والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة، وما ثبت من الأحكام على رؤية الهلال فإنه لا يتغير بحال ولا يختلف في محل دون محل.

وإنما يقع الاختلاف بين الناس لاختلاف الرائي، وعدم توثقه في رؤيته لا المرئي.

فقول النبي ﷺ: «صَوْمَكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرَكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ»[252] هو خطاب لجميع الناس في كل بلد، لكون الهلال إذا ظهر في بلد ورأوه رؤية صحيحة، فإنه غالبًا يظهر كذلك في كل بلد، إذا لم يحُلْ دون منظره غيم أو قتر.

وإذا لم يظهر الهلال وإنما قيل بأنه رؤي في بلد كذا، فإن هذا خبر يصدقه اليقين أو يكذبه، وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله أعلم.

* * *

[248] هذا الحديث هو من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه ابن عساكر فذكره، ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة، غير أنه قد اشتهر هذا السبب لنزول الآية؛ إذ السؤال عن الأهلة واقع كما جاء مقرونًا بالجواب في نص الكتاب، وكون هذا الحديث ضعيفًا إنما ضعفه من قبل رجاله، وليس كل ما لا يصح سنده يعتبر باطلاً في نفس الأمر والواقع، ولا كل ما صح سنده يكون واقعًا بالفعل. [249] متفق عليه عن أبي هريرة. [250] متفق عليه عن ابن عمر. [251] لقد سمعنا من بعض المتفرنجين القول بتفضيل الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الغربي على الشهور القمرية، بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهذا ليس بمقتضى للتفضيل، وقد سبق الإسلام إلى كل عمل جليل وفعل جميل، وهذا التفضيل يجعل الشهر لا يتغير شتاء ولا صيفًا، قد استعمله أهل الإسلام باسم البروج على عدد شهور السنة أي اثنا عشر برجًا لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهي برج (الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت). فكل برج بعدد الأشهر، ولا يتغير عن وقته، وما من فضيلة إلا وقد أدلى الإسلام فيها بالسهم الأوفى، وكل الصيد ففي جوف الفرا. [252] رواه البيهقي في السنن الكبرى، وعبد الرزاق في مصنفه؛ كلاهما عن أبي هريرة.