متقدم

فهرس الكتاب

 

(4) كتاب الصيام وفضل شهر رمضان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبالعمل بطاعته تطيب الحياة وتفيض الخيرات وتنزل البركات. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فإن الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول. هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم والخيرات ويبوئهم رفيع الدرجات والفوز بالجنات.

فما من يوم من هذه الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات. فاطلبوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات ربكم، فإن خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله.

إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56]، ففرض سبحانه على عباده الصلوات الخمس مفرّقة في أوقاتها المعروفة لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، وجعلها عمود دينهم وعنوان إيمانهم وأمانتهم والصلة بينهم وبين ربهم.

كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قبل وجه عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[140]، وفي دعاء الاستفتاح «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[141]. وكما فرض الزكاة في أموالهم طهرة تطهرهم وتزكيهم بها عند ربهم، وجعلها بمثابة الدليل والبرهان على صحة أمانتهم وصدق إيمانهم، وكما فرض صيام شهر رمضان لتمحيص تقواهم، وليتبين به من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيصبح صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضاء ربه ومحبوبه، والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[142]، فالمسلم لو ضرب على أن يستبيح الفطر لما استباح الفطر أبدًا، لأن دينه يمنعه من إبطال صيامه وإحباط أعماله، والدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
وكما أوجب حج بيت الله الحرام في العمر مرة واحدة بدون تكرار. وهذه هي أركان الإسلام التي يصير بها الإنسان مسلمًا، لما في البخاري و مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

* * *

[140] أخرجه ابن المنذر في الأوسط من حديث الحارث الأشعري. [141] أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث علي. [142] متفق عليه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.