متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في نوافل الصيام والصلاة وسائر العبادات

إن السلف الصالح الكرام يدعون الله أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله أن يتقبله منهم لأنهم لقبول العمل أشد اهتمامًا منهم بالعمل. وإنما يتقبل الله من المتقين، وهذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال ومقادير الآجال. فهي تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول ودائم لا يحول.. هو في كل الحالات إله واحد ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم ليسبغ عليهم فواضل النعم ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فقد مضى شهر الصيام، ثم أقبلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فما من يوم من الأيام إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه.. فالسعيد من اغتنم مر الليالي والأيام والساعات وتقرب إلى الله بما فيها من فرائض الطاعات ونوافل العبادات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات، وفي الحديث: «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ»[219]. وقد أمر الله عباده بأن يعبدوه حتى الممات، لأنه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت.. قال الله: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99].

ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان ولا يتعبدون في غيره. قال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقا إلا في رمضان، كن ربانيا ولا تكن رمضانيا.

إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الإنسان إذا عمل عملاً كصيام رمضان فإنه يحافظ على إتقانه وعدم إحباطه وإبطاله، وقد قيل: إن من علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، ومن علامة ردها أن تعقب تلك الطاعة بمعاص بعدها.. فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، وقد قال النبي ﷺ لرجل: «يا فلان، إنك تبني وتهدم». قال: يا رسول الله كيف أبني وأهدم؟ قال: «إنك تعمل أعمالاً صالحة ولكنك تعمل بعدها أعمالاً سيئة»[220].
وتهدم ما تبني بكفك جاهدًا
فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهـيرًا على الرحمن للجبر تزعم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنى
من السيل في مجراه لا يتقسم
فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن أبي أيوب، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ»؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.

ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم والله لا يسألكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[221]. فهذا محض الفقه.. فإن الإنسان لا بد أن يحصل منه شيء من النقص والتقصير في الفرائض فتكون النوافل بمثابة الترقيع لخلل الفرائض.

كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه وفيه حديث مرفوع، وهو أن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته، فإن كملت فقد أفلح ونجح، وإن نقصت فقد خاب وخسر، ثم يقول الله: انظروا ما كان لعبدي من تطوع فكملوا به فريضته[222] . وكذلك الأعمال تجري على هذا المنوال، ثم إن المحافظة على النوافل هي من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أولياء الله المقربين وحزبه المفلحين. كما في البخاري: أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» [223].

فالذي يصوم رمضان، ثم يصوم بعده ستة أيام من شوال يكون كصيام الدهر كله، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن فيها فضلاً كبيرًا ويترتب عليها أجر كثير، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام. فهذه الثلاث الخلال من حازها فقد حاز خيرًا كثيرًا. وكذلك صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، ففيهما فضل كبير.

أما صلاة ركعتي الضحى، فإنها بمثابة الصدقة عن سائر أعضاء الإنسان وجسمه، لحديث أن النبي ﷺ قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى». رواه مسلم. وقال: «رَكْعَتَا الضُّحَى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[224] والأفضل أن تفعل هذه الصلاة في البيت، لقول النبي: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ صَلَاتِكُم فِي بُيُوتِكُمْ خَيْرًا، وَلَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا».[225] أي تهجرونها من فعل الصلاة فيها؛ فالبيت الذي تصلى فيه النوافل ينبسط فيه الرزق وتنزل فيه البركة وتغشى أهله الرحمة.

وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنها كصيام الدهر وهي بمثابة زكاة البدن، ففي الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[226] وقال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[227] وكل من تأمل أحوال الناس فإنه يرى أن الذين يتنفلون بالصوم والصلاة أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، وأن الله يمتعهم في الدنيا متاعًا حسنًا نتيجة أعمالهم الصالحة؛ لأن الصوم والصلاة بما أنهما من العبادات البدنية فإنهما من الرياضات البدنية التي تعود على البدن بالنشاط والصحة والقوة.

وآكد النوافل الوتر، فقد قال النبي ﷺ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُ الْوِتْرَ»[228] وقال: «أوتروا، وَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا».[229] وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة وأقله ركعة واحدة. والوتر حق، من أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل. وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات وهي السنن الراتبة: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر.. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها وإن فاته شيء منها سُن له قضاؤه، يقول الله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا ٦٢ [الفرقان: 62] قالوا: من فاته حزبه بالليل كان له من النهار مستعتب.

أما السنن التي لها سبب، فمثل تحية المسجد.. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[230]، وسواء كان في وقت نهي كما بعد العصر أو الفجر. وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين، لما في الصحيح، أن النبي ﷺ كان يخطب فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني فجلس، فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قال: لا. قال: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»[231] أي خففهما. ولهذا تفعل هاتان الركعتان ولو كان المؤذن يؤذن أو الخطيب يخطب.

وعلى كل حال، فإنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لفعل صلاة أو صيام أو صدقة، وإن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة.. ويقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا فقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون.

وإذا كان للرجل أو المرأة عادة من فعل الصلاة أو الصيام، ثم أقعد عنها بمرض أو كبر، بحيث لا يستطيع أن يعملها، فإن الله يقول لملائكته: أجروا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح. فتجرى له أعمال صالحة وهو مضطجع على فراشه، وإذا أتى الإنسان إلى فراشه ومن نيته أن يقوم من آخر الليل فغلبته عيناه كتب له قيام ليله وكان نومه عليه صدقة، وعلى كل حال فإن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن قال: «ما هذا القبر؟». قالوا: قبر فلان التاجر. قال: «والله لصلاة ركعتين أَحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها» [232]

فالدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا

[219] أخرجه الطبراني من حديث محمد بن سلمة الأنصاري. [220] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة من حديث عبد الله بن شقيق. [221] أخرجه الطبراني بمعناه في مسند الشاميين عن عائشة، وهو في مختصر قيام الليل للمروزي. [222]أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «ركعتا الفجر». [223] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [224]أخرجه النسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة. [225] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [226] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [227] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [228] أخرجه أحمد من حديث علي. [229] أخرجه أبو داود من حديث بريدة الأسلمي. [230] رواه أبو قتادة عن النبي ﷺ. [231] أخرجه البخاري في القراءة خلف الإمام من حديث جابر. [232] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.