فصل في ختام شهر الصيام
إن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، حيث أنزل فيه القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام وجعله شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهيرًا للقلوب من الفساد وقمعًا للشهوة والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد. شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
وقد قوضت الآن منه الخيام وتقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه والحافظ لما أودعتموه، إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصنة والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[215].
صعد النبي ﷺ المنبر، فقال: «آمين آمين» قالوا: علام أمَّنت يا رسول الله؟ قال: «جاءني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله. قل: آمين.. قلت: آمين»[216]، فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان شهر النفحات شهر إقالة العثرات شهر مضاعفة الحسنات شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ فيه لا بمغفرة ولا برحمة ولا بإقالة عثرة ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، حيث ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته فأفنى شهره ودهره في البطالة وعدم الطاعة حتى لم يبق للصلاح منه موضع ولا لحب الخير من قلبه منزع، قد رضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا - والله - لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين لا يتقيدون بالدين، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع.. واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ثم يدَّعي أحدهم الإسلام، بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يؤدي الزكاة الواجبة، وقد قلنا غير مرة: إنه لا يستحل ترك الصلاة والصيام عمدًا من غير عذر سوى ملحد مرتد عن دين الإسلام.
ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان، فهو شر من الكلب والخنزير، قد ساءت طباعه وفسدت أوضاعه فعصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتنافل والمرء على دين خليله وجليسه.. قتل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح فإنه يتسمى بالإسلام وقد جمع بين ضلال مع إصرار كفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣﴾ [الحجر: 2-3]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩﴾ [المرسلات: 48-49].
إن الله سبحانه قد أنزل في كتابة المبين التعزية والتسلية للمؤمنين عن هؤلاء المرتدين عن الدين، فقال تعالى: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٧٧﴾ [آل عمران: 176-177].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥﴾ [محمد: 25] إنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية وتركوا الصلاة والزكاة والصيام الفرضية وسائر الطاعات المُرضية واستباحوا المنكرات وشرب المسكرات إلا فتح عليهم من الشر كل باب وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25] فالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.. رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
* * *
[215] رواه مسلم عن أبي ذر. [216] رواه ابن حبان في صحيحه بطوله عن أبي هريرة، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الترمذي.