متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في استحباب الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان

إن في العشر الأواخر من هذا الشهر ترجى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر.. العمل فيها خير من العمل في ألف شهر. وقد نوه القرآن بفضلها وحثكم النبي ﷺ على طلبها، فقال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[212] وهي ترجى في أفراد العشر، ولله الحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في العمل في سائر الشهر ولا يتَّكلوا على العمل في ليلة القدر، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهد الناس في الدعاء في سائر أوقاتها حرصًا على طلبها ولا يتَّكلوا على الدعاء في ساعة منها.

وكان النبي ﷺ يخلط العشرين الأُول من رمضان بنوم وقيام فإذا دخلت العشر الأخيرة أحيا ليله وأيقظ أهله وهجر فراشه وجد واجتهد في العبادة، وكان يوقظ أهله ويطرق باب علي وفاطمة ويقول: «أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ؟»[213] ثم يتلو: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132]، وكان يقول: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[214] وكان يعتكف في العشر الأخيرة من رمضان حرصًا على طلبها، والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية لله عز وجل لقطع أشغاله وتفريغ باله وخلوه لمناجاة ربه وذكره وشكره ودعائه.

والاعتكاف سنة مشهورة وقد أصبحت بين الناس مهجورة، والسنة على المعتكف هو أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه.. فكأن المعتكف يقول بلسان حاله: يا رب إن الناس قد رجعوا إلى أهلهم وأموالهم وإنني عاكف في بيتك ملازم لبابك أرجو رحمتك وأخشى عذابك. وإن العمر بآخره وملاك الأمر خواتمه وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.

فكم من مستقبل لهذا الشهر ثم لا يستكمله، وكم من مؤمل لعوده إليه ثم لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل

* * *

[212] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [213] أخرجه أبو عوانة من حديث علي. [214] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.