متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في المسارعة إلى الخيرات قبل الفوات أو الوفاة

قال الله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦ [آل عمران: 134-136].

أمر الله عباده بأن يبادروا ويسارعوا إلى الأعمال الصالحات قبل الفوات وقبل أن تحين الوفاة، فإن للتأخير آفات، ولهذا أمر سبحانه بالأخذ بالحزم وفعل أولي العزم في المبادرة إلى أفعال هذه الخيرات. فهي التي تؤهلهم من المغفرة والرحمة والفوز بالجنات، وقد مضى للأنبياء والأولياء أمثالها، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ٩٠ [الأنبياء: 90].

وكما وصف الله عباده الصالحين بها، فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ ٦١ [المؤمنون:60-61]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: «لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُوْنَ أَلَّا يقبل مِنْهُمْ»[183]. أولئك الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، لأن المؤمن هو من جمع إحسانًا وشفقًا، والمنافق هو من جمع إساءة وأمنًا فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

فالمسارعة إلى وسائل المغفرة والرحمة والفوز بالجنة بمعنى المسابقة التي أمر الله بها بقوله: ﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ ٤٨ [المائدة: 48].. وقال: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ [الواقعة: 10-11].. أي السابقون إلى الخيرات والأعمال الصالحات هم السابقون إلى الجنات، والسابقون إلى الصلوات والجمعات هم المقربون إلى الله في الجنات، ولهذا قال العلماء: إن الناس يكونون في القرب من الرب على قدر قربهم من الإمام يوم الجمعة.

وقال الحسن: إن الله سبحانه جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه العاملون ويخسر فيه المبطلون، ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ ٢٦ [المطففين: 26]. وعن عمرو بن ميمون الأزدي قال: سمعت النبي ﷺ وهو يعظ رجلاً ويقول له: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، وَلَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ». رواه الترمذي مرسلاً.
فيا ساهيًا في غمرة الجهل والهوى
صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده
سوى جنة أو حر نار تضـرَّم
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة
وعدلك مقبول وصرفك قيّم
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسـرعا فالسيل خلفك مسـرعا
وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته
عليها القدوم أو عليك ستقدم
وقوله: ﴿أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ١٣٣: يعني أن الله سبحانه خلق الجنة كرامة ونعمة لمن أطاعه واتقاه. كما خلق النار عقابًا وعذابًا لمن خالف أمره وعصاه، ولما خلق الله الجنة قال لها: تكلمي. قالت: قد أفلح المؤمنون.. قال: طوبى لك منزل الملوك. وإن الجنة هي سلعة الله الغالية لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، وقد هيئت وأعدت للمتقين الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة واجتنبوا المحرمات وأنفقوا في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، لأن الله سبحانه يقول: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢ [النحل: 32] والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ [النساء: 131]، وحقيقتها تنحصر في فعل المأمورات واجتناب المحرمات خوفًا من عقاب الله ورجاء ثوابه.

ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك. ولكن التقوى هي أداء ما فرض الله وترك ما حرم الله وإن زدت على ذلك فهو خير إلى خير، فالمتقون يجعلون أعمالهم الصالحة بمثابة الوقاية دون عقاب الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «اتَّقُوا النَّارَ» ثم أعرض وأشاح، ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».[184] وكان النبي ﷺ يخطب، فسأله رجل قال: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ فقال: «أَكْرَمُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ للرب، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»[185].

وقد قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم
وحبك للدنيا هي الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
إذا كان ذا تقوى وإن حاك أو حجم
﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ [الطلاق: 2-3]، ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّ‍َٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥ [الطلاق: 4-5]، ذلك أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا، فالتقوى هي قوام أمر الشخص وملاك دينه وغاية شرفه في دنياه وآخرته، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ [الحجرات: 13].

كما قيل:
لقد رفع الإسلامُ سلمان فارس
كما وضع الشـركُ الشقي أبا لهب
لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
ثم شرع سبحانه في أوصاف المتقين فقال: ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ [آل‌عمران:134] أي ينفقون ويتصدقون في حالة اليسر والعسر لرغبتهم في الثواب والأجر وخوفهم من العقاب والوزر ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨ إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا ٩ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوۡمًا عَبُوسٗا قَمۡطَرِيرٗا ١٠ [الإنسان: 8-10].. إنهم لم يقولوا هذا الكلام حين أطعموا الطعام، ولكن الله علمه من قلوبهم فنطق به على ألسنتهم. وأفضل الصدقة جهد المقل. وابدأ بمن تعول ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ [الطلاق: 7].

وروى البخاري عن أبي مسعود الأنصاري، قال: حث النبي ﷺ على الصدقة ولم يكن عندنا مال، قال: فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. وقد سبق درهم من فقير مائة درهم من غني.

وفي البخاري قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ». وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللهﷺ: «لأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ»، ثم قال: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤ [آل عمران: 134]. وهذه أيضًا من صفات المتقين الذين أعد الله لهم جنات النعيم أنهم يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس، والله عفو يحب العفو، فهم يحتسبون إسقاط حقهم عفوًا منهم عنه مع قدرتهم على الانتصار، وفي كظم الغيظ فضل عظيم وهو ينبئ عن رزانة العقل والرغبة في الخير، ولهذا يقال: ليست الأحلام في حال الرضا، إنما الأحلام في حين الغضب، لاسيما لصائم.. فإنه يستحب له متى غاضبه أحد أو شاتمه أن يلجم نفسه بلجام التقوى ويستمسك من الورع بالعروة الوثقى وليقل: إني صائم كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان؛ لأن الصوم جُنة يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام ورديء الكلام، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

وقد سأل رجل النبي ﷺ قال: يا رسول الله، أوصني. قال: «لَا تَغْضَبْ»، فردد مرارًا، يقول: «لَا تَغْضَبْ»،[186] لأن الغضب يتفرع عنه كل شر.. وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: «لَا لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».[187] ولهذا يستحب للرجل إذا غضب أن يتوضأ أو يغسل وجهه بالماء.. لأن الغضب من الشيطان المخلوق من النار، والماء يطفئ النار، وهو مجرب لتسكين الغضب.. ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣٤.. لأن الله سبحانه كتب الإحسان على كل شيء، على الناس فيما بينهم..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإحسان إنسانا
وحتى البهائم، ففي البخاري: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ العَطَشِ، إِذْ نَزَعَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مُوقَهَا[188] فَسَقَتْهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهَا ذَلِكَ، فَغَفَرَ لَهَا». فقالوا: أولنا في البهائم أجر؟ قال: «نَعَمْ، إِنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرًا».

وقال: «دَخَلَتِ النَّارَ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».[189] ثم قال: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ [آل‌عمران: 135].. فهذا من بعض أوصاف المتقين وأنهم إذا ارتكب أحدهم ذنبًا على حين غفلة أو غلبة شهوة أو غضب، فإنهم يفرون إلى الله بالتوبة ويتوبون إليه ويستغفرونه من ذنبهم ويندمون على ما وقع منهم، إذ ليس من شرط المتقين العصمة فقد يقترف أحدهم الذنب ثم يتوب إلى الله منه والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ ٢٠٢ [الأعراف: 201-202].

فأخبر الله عن الذين اتقوا بأنهم متى وقع من أحدهم ذنب أبصر الخروج منه بالتوبة عنه، وقد قيل:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا
وأي عبد لك لا ألمّا
وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على ألا لا يعود، وإن كانت عن مظالم مالية فيردها إلى أربابها لأنها من الديون التي لا يترك الله منها شيئًا، وأن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على الذنوب وعدم التوبة منها، كما في الحديث: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ، الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»[190] و«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ»[191] كما ثبت بذلك الحديث، لكنه متى تاب من الذنب واستغفر منه وقلبه متعلق بمحبته وعازم على معاودته.. فإن هذه توبة الكذابين المستهزئين بربهم.

﴿وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ [النساء: 18].

إن أعظم ما يهم به العاقل هو سؤال المغفرة والفوز بالجنة والعمل على حساب ذلك بأن يسعى لها سعيها وهو مؤمن.

وقد قال رجل للنبي ﷺ: إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إلا أني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار. قال رسول الله ﷺ: «حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ»[192]. وفي صحيح ابن خزيمة عن سلمان في فضل رمضان أن النبي ﷺ قال: «إنه شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ: فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، والاستغفار، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهمَا: فَتُسْأَلُونَهُ الْجَنَّةَ، وَتَسْتَعِيْذُوْنَ بِهِ مِنَ النَّارِ».

وسيد الاستغفار هو أن يقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»[193].

فبدأ سبحانه هذه الآيات بالدعوة إلى المغفرة والفوز بالجنة، وختمها بالمغفرة والفوز بالجنة والله أعلم.

فاعملوا لدار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولا يتغير حسنها وإحسانها، هواؤها النسيم وماؤها التسنيم، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ويتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين، ﴿دَعۡوَىٰهُمۡ فِيهَا سُبۡحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمۡ فِيهَا سَلَٰمٞۚ وَءَاخِرُ دَعۡوَىٰهُمۡ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠ [يونس: 10].

* * *

[183] رواه الترمذي والإمام أحمد في مسنده. [184] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [185] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن درة بنت أبي لهب. [186] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [187] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [188] مُوقها: خُفَّها. [189] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [190] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. [191] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة. [192] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث أبي هريرة. [193] أخرجه البخاري من حديث شداد بن أوس.