فصل في أحكام الصيام الفقهية
ومن أحكام الصيام الفقهية أنه يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل. ويؤمر به الصغير متى أطاقه لتمرينه على العبادة كالصلاة، ويجب تبييت نية الصيام من الليل لحديث حفصة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه. والنية قلبية ومعناها القصد، ومتى خطر في قلب الشخص أنه غدًا صائم فقد نوى. وقد رخص للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة متى بلغا في السن فوق الثمانين ويشق عليهما الصوم فوق المشقة المعتادة بأن يفطرا، ويطعم كل واحد منهما عن كل يوم مسكينًا، ومثله من به مرض ملازم له كمرض السل ونحوه، ويقول الأطباء: إن الصوم يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.
وقدر الفقهاء الإطعام بمدين من الطعام، ونقدره فيمن غالب قوتهم الأرز بكيلو من الأرز، وإن أطعم فقيرًا أكلة تامة من طعامه الذي يأكله بدون تملك أجزأه ذلك؛ لأن الله سبحانه ذكر في كتابه المبين إطعام المسكين في حق الشيخ الكبير إذا أفطر، وفي كفارة اليمين، وأطلق الإطعام ولم يقيده بالتملك فدل على جوازه بمجرد الإطعام، كما حققه العلامة ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن عشَّى فقيرًا من طعامه فقد قام بواجب إطعامه. وكذلك من عشى عشرة مساكين في كفارة اليمين أجزأه ذلك في تحلة قسمه.
ولا بأس بالفطر في السفر متى أيقن بالعزم على القضاء، لقوله تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185]، وإن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، لما روى مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح في ذلك؟ فقال رسول اللهﷺ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا، فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ». ومن أفطر رمضان أو بعضه لمرض ثم توفي من مرضه ذلك قبل أن يتمكن من القضاء، فلا يجب على ورثته إطعام ولا صيام لعدم وجوبه على المتوفى المذكور.
أما إذا أفطر لعذر المرض، ثم عوفي وبرئ من مرضه ومكث وقتًا يتمكن فيه من القضاء فيه، ثم توفي قبل أن يقضي ما عليه، فإنه يطعَم عنه عن كل يوم مسكين، ومثله من أفطر لعذر السفر وهذا ظاهر المذهب. والصحيح أنه إن صام عنه وليه أجزأه لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، والصحيح حمله على الإطلاق في صوم النذر والفرض. قال ابن عبد القوي:
ويشرع أن يقضى عن الميْت نذره
كحج وصوم واعتكاف بمسجد
ونذر صلاة النفل يقضَى بأوكد
ولو قيل يقضَى فرضه لمبعد
وأما مختل الشعور عديم العقل والمعرفة فلا صيام عليه ولا إطعام، لكونه مرفوعًا عنه القلم.
ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه فلا قضاء عليه، ومن استيقظ بعد الفجر فأكل وشرب ظانا أنه ليل فتبين أن الفجر طالع فصيامه صحيح ولا قضاء عليه لدخوله تحت العفو. فقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ومن غلبه القيء فخرج بغير اختياره فلا قضاء عليه، ومن أخرجه باختياره فعليه القضاء. ويجوز للصائم أن يستاك أول النهار وآخره، لما في البخاري عن عامر بن ربيعة، قال: رأيت النبي ﷺ - لا أعد ولا أحصي - يستاك وهو صائم. لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وبمعنى السواك غسل الأسنان بالمعجون فيجوز، ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة ويخشى إن اغتسل أن يطلع عليه الفجر ويفوته السحور، فإنه يجوز له أن يتسحر وهو جنب ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر وصيامه صحيح، لما في البخاري أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا ثم يغتسل ويصوم. وكذلك المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل ورأت أمارات النقاء فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس وصيامها صحيح لكونه لا يشترط للصيام الطهارة من الحدث.
وإذا اغتسلت وجب عليها أن تقضي صلاة المغرب، ثم صلاة العشاء، ثم صلاة الفجر على الترتيب من تلك الليلة التي انقطع عنها دم الحيض فيها. وإذا انقطع عنها دم الولادة بعد عشرة أيام من ولادتها أو بعد عشرين يومًا أو أقل أو أكثر، فإنه يجب عليها من حين انقطاع الدم أن تغتسل وتصوم وتصلي، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس ثم تمكث اليوم واليومين والثلاثة لا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فيها كلها تقول: أخشى أن يعود عليّ الدم. فهذا جهل وخطأ وتفريط منها في عبادة ربها لا ينبغي أن تفعله، فإن واجب المسلمة أن تبادر إلى الاغتسال من حين انقطاع الدم عنها من غير تأخير، ثم تقوم بواجباتها من صلاتها وصيامها. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
وكذلك نساء البوادي اللائي يسكنَّ في الصحراء فينقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس وليس عندها ماء تغتسل به، فإنها يجب عليها أن تضرب التراب بيديها فتمسح به وجهها وكفيها تنوي بذلك رفع الحدث عنها ثم تصوم وتصلي؛ لأن التيمم يقوم مقام الطهارة بالماء.. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ﴾ [المائدة: 6] ثم تفعل ما تفعله النساء الطاهرات من قراءة القرآن ومس المصحف. وكذلك يفعل من عليه جنابة أو من يريد الوضوء للصلاة وقد انقطع الماء عن بيته فلا يجده إلا بطريق السؤال من الناس، فإنه يجب أن يتيمم ويصلي ولو كان بالبلد لاعتباره عادمًا للماء وقت الصلاة، والله يقول: ﴿فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا﴾.
ويقوم التيمم مقام الوضوء والغسل بالماء، لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» رواه البزار وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة، لكن صوب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه الحاكم.
وإذا صامت المرأة وبعد غروب الشمس عندما أفطرت رأت دم الحيض، فإن صيامها ذلك اليوم صحيح ولا ينبغي لها أن تشك في صحته؛ لأن الشك لا يرفع يقين الطهارة، وإذا اغتسلت المرأة من المحيض أو من النفاس، ثم رأت شيئًا من الكدرة أو الصفرة فإنها لا تبالي به. بل تصوم وتصلي وتقرأ القرآن وتمس المصحف، وكذا الجنابة لاعتبارها طاهرة، لما في البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا..
والاغتسال من المحيض والنفاس هو مثل الاغتسال من الجنابة على حد سواء فلا يلزمها أن تنقض شعر رأسها، بل تروي أصوله بالماء فحسب، كما أن ثوب الحائض طاهر فلا يلزمها غسله ولا إبداله إلا أن ترى شيئًا من الدم فيه فتغسله، والحامل متى خرج منها شيء من الدم فلا تبالي به، بل تصوم وتصلي؛ لأن هذا الدم ليس بدم حيض وإنما هو دم فساد يشبه دم الرعاف ودم الجرح.
والنبي ﷺ قال: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطير في الأفق؛ فإن بلالاً يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ويرد غائبكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت.. رواه البخاري ومسلم وفي آخره إدراج.. يقول الله: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ﴾ [البقرة: 187] والله أعلم.
* * *