متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في صلاة التراويح

إن الله سبحانه لا يشرع شيئًا من العبادات، كالصلاة والصيام وقيام الليل، وخاصة قيام رمضان إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة.. فالصلاة بما أنها عبادة دينية لحديث: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ»[168] فإنها أيضًا رياضة بدنية لكون الدين يجمع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة وبين مصالح الروح ومصالح الجسد.. وكذلك الصيام فإنه عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة البهيمية، شرعه وفرضه مَن يعلم ما في ضمنه من مصلحة العباد من زيادة الإيمان وصحة الأبدان، وقد راعى النبي ﷺ التنبيه على ذلك بقوله: «صُومُوا تَصِحُّوا».[169] وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[170] لكونه يزكي البدن أي ينميه.. وقد سن رسول الله ﷺ صلاة التراويح قولاً منه وفعلاً، فروى البخاري ومسلم، قال: كان رسول الله ﷺ يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ويقول: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

وروى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غَصَّ المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم رسول الله، فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنِّي خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ». وذلك في رمضان. قالت عائشة: إن كان رسول الله ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم[171]. وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ، وبقي الاستحباب على حاله، فتعتبر صلاة التراويح جماعة سنة سنها رسول الله ﷺ لأمته، ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[172]. قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.

وروى البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها[173]. يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله وينامون آخره.. فقول عمر: نعمت البدعة هذه، ليس معناه أن عمر هو الذي ابتدع صلاة التراويح. فقد سنها رسول الله ﷺ قبله، حيث صلاها بالناس ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله بصلاته بهم جماعة، لأنه خشي أن تفرض عليهم فيعجزوا. وأنه كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، كما ترك صلاة الضحى من أجله. وحسبك أن الناس زمن رسول الله وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط من الجماعة بدون أن ينكر عليهم رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في فعلهم لها جماعة.

فصلاة التراويح جماعة لا شك في مشروعيتها وأنها سنة سنها رسول الله ﷺ بقوله وفعله. وليس ببدعة، وإنما أراد عمر بقوله: نعمت البدعة هذه: يعني تنظيم الناس على الاجتماع لصلاتها، حيث ضم الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد بالعمل المستمر، فكان أُبي بن كعب يصلي بالرجال وتميم الداري يصلي بالنساء، ولم ينكر هذا العمل أحد من المهاجرين ولا الأنصار فكان سنة والفضل للسابق.

وقد أخذ بعض الفقهاء من لفظة عمر: نعمت البدعة أن التراويح بدعة حسنة، وليس في الشرع بدعة حسنة أبدًا، بل كل بدعة سيئة وكل بدعة ضلالة. وصلاة التراويح سنة حسنة وليست من البدعة في شيء، لكون البدعة هي ما يفعل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع. وكذلك جمع القرآن، فقد حكم الله بجمعه في كتابه، قال سبحانه: ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ [القيامة: 17]، فلو ترك الصحابة جمعه لأثموا، لكون عدم جمعه مدعاة إلى ضياعه.

وسميت تراويح من أجل أنهم يستريحون بعد كل أربع ركعات لكونهم يعتمدون على العصي من طول القيام ولا ينصرفون منها إلا في فروع الفجر، وكانوا يحزبون القرآن فيختمونه في سبع ليال يقرؤون في الليلة الأولى بالبقرة وآل عمران والنساء.

كما قال أصحاب ابن مسعود: كنا نحزب القرآن ثلاثًا وخمسًا وسبعًا وتسعًا وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد وأوله (ق).

والتراويح هي من قيام الليل المطلق ليست محصورة بعدد، فكان بعضهم يصليها بعشرين، وبعضهم يصليها بست وثلاثين، وبعضهم يصليها بإحدى عشرة، وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.

ولنعلم أن لب الصلاة الخشوع، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ [المؤمنون: 1-2]. فما يفعله بعض الناس من السرعة الزائدة في صلاة التراويح يعتبر خطأ.. فإن صلاة ركعتين بخشوع في القيام والركوع والسجود أفضل من أربع ركعات وست ركعات بلا خشوع.

ويصليها الرجل في جماعة أو في بيته، وكذلك المرأة تصليها في الجماعة أو في بيتها وهو أفضل.

والتراويح بما أنها من أسباب محبة الرب للعبد، كما في الحديث: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»[174] فإنها من أسباب الصحة للجسم، كما في الحديث «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ»[175]، وذلك أن الصائم يأتي إلى الفَطور في حالة شدة الشهوة فيأكل ويشرب إلى غاية الشبع ونهاية الامتلاء، ومن لوازم هذا الشبع والامتلاء استرخاء الأعضاء وسريان الفتور فيها فيستولي عليه الكسل والضعف فكان في أشد الحاجة إلى التخفيف والهضم، لهذا شرع الله على لسان نبيه صلاة التراويح التي لا يزال فيها بين قيام وقعود وركوع وسجود إلى أن ينصرف منها وقد استعاد نشاطه وقوته ودب فيه روح السرور والهناء والغبطة، فيتحلل عنه مضرة ذلك الامتلاء وتبقى فيه منفعته، وهذا من حكم الشريعة التي جعلها الله بمثابة الشفاء من سائر الأدواء؛ لأن الله لا يشرع شيئًا من العبادات إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، فهي رياضة بدنية وعبادة دينية.

* * *

[168] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. [169] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [170] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة. [171] متفق عليه من حديث عائشة. [172] أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ذر. [173] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر بن الخطاب. [174] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [175] رواه الترمذي عن أبي أمامة وبلال.