متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في فضل قراءة القرآن بالتدبر

إن الله سبحانه خص رمضان بإنزال القرآن، الذي أفاض فيه على المؤمن هداية الرحمن، كما خصه بوجوب الصيام وكما خصه ببعثة محمد ﷺ برسالته العامة لجميع الأنام، الخاص منهم والعام، والناسخة لما سبقها من الشرائع والأحكام، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهو سفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ [الجن: 1-2].. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا.

أوجب الله على المؤمنين صيام شهر رمضان، تذكيرًا لهم بنعمة إنزال القرآن، وبعثة محمد ﷺ، ولهذا كان جبريل يدارس الرسول ﷺ القرآن في رمضان، فيتضاعف جوده بالعبادة والصدقة والإحسان، قدرًا زائدًا على سائر الزمان، وكان السلف يتدارسون القرآن في رمضان، ويقومون به الليل بما يسمى قيام رمضان.. والنبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»[160] رواه مسلم. وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن القرآن حجة لأقوام وحجة على آخرين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥ [التوبة: 124-125].

قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام سالمًا، بل إما له وإما عليه. ولهذا قال ابن مسعود: القرآن شافع مشفع، وماحل - أي مخاصم - مصدق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.[161] وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه قذف به في النار [162].
تدبر كتاب الله ينفعك وعظه
فإن كتاب الله أبلغ واعظ
وبالقلب ثم العين لاحظه واعتبر
معانيَه فَهْو الهدَى للملاحظ
وعن عبد الله بن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فاقبلوا مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِيْنُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ، لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ، فَإِنَّ اللهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ كُلَّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، لَا أَقُولُ: {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الحاكم.

وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ». قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ، قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ إِلَّا أَنْ قَالُوا: ﴿ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ [الجن: 1-2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ». رواه الترمذي والدارمي، وقال الترمذي: إسناده مجهول، وفي إسناده الحارث الأعور، وفيه مقال.

والقرآن إنما أنزل لتدبره وتوطين النفس للعمل به، ومن قرأ القرآن ولم يعمل به فقد ضرب الله به مثل السوء ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ [الجمعة: 5] أي كتبًا لا يدري ما فيها.
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا - أي كلفوا العمل بها فلم يعملوا بها - ﴿كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وهذا الذم ينطبق على كل من حمل القرآن فلم يعمل به، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ [المائدة: 68] معناه بالضبط يا أهل الإسلام لستم على شيء حتى تقيموا القرآن فتحافظوا على فرائضه وتجتنبوا محارمه. وقد أخبر النبي ﷺ أن أناسًا من هذه الأمة يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وأخبر أن أناسًا يقرؤون القرآن يقيمونه كما يقام القِدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه، يعني أنهم يتعجلون أخذ الأجرة على التلاوة ولا يتأجلون أجره وثوابه.

ومر عمران بن حصين على قارئ يقرأ القرآن فلما فرغ من قراءته أخذ يسأل الناس فاسترجع عمران ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أُنَاسًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ، فَاقْرَؤُوا الْقُرْآنَ واسألوا بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»[163].

ويستحب تحسين الصوت بالقراءة لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» أي يحسن صوته بالقراءة. وقال: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»، ومعنى أذن: يعني استمع لكون حسن الصوت يستدعي الإصغاء والاتعاظ، كما في الحديث «حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ»[164]. ويستحب أن يحتسب ثواب قراءته لنفسه ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، أما إهداء ثواب القراءة فلم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به ولا عن الصحابة فعله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لم يكن من عادة الصحابة والسلف الصالح إذا صاموا تطوعًا أو حجّوا تطوعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى موتاهم، فلا ينبغي العدول عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل. وقال: إنه لو أوصى بمال في ختمات فإن هذا المال يصرف على الفقراء والمساكين، فهؤلاء الذين يبيعون الختمات على الناس، بحيث يشتريها من يهدي ثوابها لموتاهم فإنه ليس لهم ثواب ولا أجر في قراءتهم حتى يشترى هذا الثواب منهم، وإنما يتحيلون على الناس بأكل أموالهم، وأكثر من يفعل هذا هم الهمج السذج الذين ليس لهم حظ من العلم والمعرفة والعقيدة الصالحة، ومثله تعليق ما يسمونه الجامعة والحروز على الأجساد والأولاد، سواء كانت من القرآن أو من غير القرآن، فإنه منهي عنها على الإطلاق لحديث: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا فَقَدْ أَشْرَكَ»[165]، وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ»[166]. وقال: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»[167]. والنهي شامل لكل ما يعلق من القرآن أو غير القرآن. والله أعلم.

* * *

[160] رواه مسلم عن أبي هريرة. [161] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الله بن مسعود. [162] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي موسى الأشعري. [163] أخرجه أحمد من حديث عمران بن حصين. [164] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عمر. [165] أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ «مَنْ سَحَرَ فَقَدْ أشرك، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ». [166] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [167] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عكيم.