فصل في وُجوب إمساك الصائم عن الإجرام والآثام وسائر ما يجرح الصيام
ثبت في البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، والصيام جنة، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
وعن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»، ثم تلا ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٧﴾ [السجدة: 16-17] رواه الترمذي وصححه. فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الصوم جُنة يستجن به المسلم من الإجرام والآثام ومن الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور واللعن والسب ورديء الكلام ومن الخصام وظلم الأنام، حتى لو تعدى أحد فسبه أو شتمه وجب أن يلجم نفسه بلجام التقوى وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى ويقول: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جُنة في الدنيا عن الإجرام والآثام كان له جُنة دون النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
وترك مقال الزور في الناس واجب
ولكنه من صائم ذو تأكد
لتذكير نفس أو لدفع معتد
فإن شتم أشرع له أنا صائم
وروى البخاري وأبو داود قال: قال رسول الله ﷺ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، لكونه لا يتم التقرب إلى الله بترك الأكل والشرب في الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه من الكذب والظلم والعدوان على الناس، لحديث: «ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام عن اللغو والرفث»[156].
لهذا قال السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب.. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»[157] لأن كل صيام أو قيام لا ينهى صاحبه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد به صاحبه إلا بعدًا.. ولهذا قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء([158].
إن من يتقرب إلى الله بترك المباحات من الشراب والطعام في حالة الصيام ثم يرتكب المحرمات من الزنا والربا وشرب الخمر، فإنه بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، فهو وإن كان صومه مجزيًا عند الجمهور، بحيث لا يؤمر بإعادته، إلا أن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به.
وروى أبو جعفر الباقر مرسلاً: «من أتى عليه رمضان فصام نهاره وصلى وردًا من ليله، وغض بصره وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى الجمعة، فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب»[159].
* * *
[156] أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة. [157] رواه ابن ماجه واللفظ له من حديث أبي هريرة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. [158] أخرجه ابن أبي شيبة من حديث جابر. [159] أخرجه ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان.