فصل في مضاعفة ثواب الصدقة والأعمال الصالحة في رمضان
إن الصدقة في رمضان فيها فضل كثير لشرف الزمان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان، كما روى الترمذي في صحيحه عن أنس قال: سئل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ فقال: «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ». وكان السلف الصالح تنبسط أيديهم بالصدقة فيه رجاء مضاعفة الأجر، ففي الحديث: «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ»[152] والصدقة هي من أفضل أعمال الخير. وكان الصحابة والسلف الكرام يخصون رمضان بمزيد من الصدقة والإحسان، ومنهم من يجعله وقتًا لإخراج زكاة المال لقصد أن يتقوى بها من يعطاها من الصوام.
فيا معشر التجار، إن الله سبحانه قد أنعم عليكم بنعمة الغنى بالمال، وإن المال كاسمه ميال؛ إذ دوام الحال من المحال، وإن المال خير لمن أراد الله به الخير. وهذا الخير كالخيل لرجل أجر وعلى رجل وزر. فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله.. فإن مال الإنسان ما قدم، كما أن النبي ﷺ قال: «يَقُولُ الإنسان: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَذَاهِبٌ، وَتَارِكُهُ لِلْوَرَثَةِ»[153] والله يقول: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ ٧﴾ [الحديد: 7].
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يَوْمٍ إِلَّا وبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[154].
إن بعض الناس يحسب الزكاة والصدقة مغرمًا ويراها ثقيلة في نفسه، كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا﴾ [التوبة: 98] وكذلك بعض الحضر. كما أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، والصحيح أنها مغنم وليست بمغرم في حق من وفقه الله لفعل الخير وأعانه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٩﴾ [الحشر: 9].
وقد قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
وقد مدح الله سبحانه الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم، أي يوقنون ويطمئنون بأن ما أنفقوه سيخلف لهم بخير منه، فما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39] ويقول الله سبحانه: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ﴾ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة تحصل للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يتسع رزقه وتنزل البركة في تجارته وصفقة يده، فلو جربتم لعرفتم، فاسمعوا ﴿وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16].
ومن الدليل على مضاعفة ثواب الأعمال في رمضان قول النبي ﷺ للمرأة لما فاتها الحج معه، فقال: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تُعَادِلُ حَجَّةً» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ورواه مسلم ولفظه قال: قال رسول الله ﷺ لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟» قالت: لم يكن عندنا إلا ناضحان[155] فحج أبو ولدي وابنه على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه. قال: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وفي رواية: «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي».
ولا تكون عمرة في رمضان حتى يحرم بها من الميقات المشروع ويتمم بقية عملها من الطواف والسعي والحلق في رمضان، أما تردد المقيم بمكة إلى التنعيم لأخذ عمرة كما زعموا، فإن هذا لم يفعله النبي ﷺ ولا أمر به أحدًا من أصحابه ما عدا عائشة رضي الله عنها حين تلكأت عن الرجوع إلى المدينة فأمر أخاها عبد الرحمن بأن يحرمها من التنعيم، لقصد تطييب قلبها لا لتكون سنة. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله.
أما صوم رمضان بمكة فإنه عمل مستقل لا تعلق له بالعمرة، وقد ورد فيه حديث ضعيف جدا أخرجه ابن ماجه في سننه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ».
لكن مضاعفة الأعمال في رمضان وفي مكة ثابتة بالنصوص الصحيحة لشرف الزمان والمكان فيتضاعف ثواب الصلاة فرضها ونفلها.. كما روى الإمام أحمد وصححه ابن حبان عن أبي الزبير، قال: قال رسول الله ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ».. والله أعلم.
* * *
[152] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح من حديث سلمان. [153] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [154] رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء ورواه ابن حبان والحاكم. [155] الناضح: الذي يُستقى عليه الماء.