فصل فيما يستفيده الصائم من الخيرات في الآخرة والحياة
ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ». رواه الترمذي والنسائي والحاكم، وفيه: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ فِيْهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ». وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وعن عبادة بن الصامت، أن رسول الله ﷺ قال يومًا وقد حضر رمضان: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يَغْشَاكُمُ اللَّهُ فِيْهِ، فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ الْخَطِيئَةَ، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعَاءَ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ فِيْهِ فَيُبَاهِيَ بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيْهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الطبراني ورواته ثقات، ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المسلمين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه، لأن بلوغه نعمة عظيمة في حق من أطاع الله واتقى، إذ لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام للتزود من الصلاة والصدقة والصيام وصالح الأعمال، وأن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم لصلاة ركعة أو صدقة أو صيام يوم ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، يقول المفرط منهم: ﴿قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ﴾ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا، قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.
والدنيا مزرعة الآخرة تزرع فيها الأعمال الصالحة، بحيث يقال لهم: ﴿ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢﴾ [النحل: 32] فمن خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
وشهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهير للقلوب من الفساد وقمع للشهوة والشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات، التي من جملتها الإكثار من الصلاة وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات وكثرة الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتكثير أيدي المفطرين من الصوام على الطعام، وهذه الخلال جدير بأن تفتح لفاعلها أبواب الجنان وتغلق عنه أبواب النيران.
وقد كان رسول الله ﷺ أجود الناس. وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والإحسان وتلاوة القرآن قدرًا زائدًا على سائر الزمان.. لأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان ومكانًا على مكان وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان فأنزل فيه القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتقًا من النار.. وقد أقسم رسول اللهﷺ أنه ما مر بالمسلمين شهر هو خير لهم من رمضان.
أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً
وزادك فاتخذه للمعاد
ومن زرع الحبوب وما سقاها
تأوّه نادمًا وقت الحصاد
* * *