متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل في تفضل الشهور القمرية على الشهور الشمسية

لقد سمعنا من بعض الجهال تفضيلهم الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الميلادي على الشهور القمرية بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، وهذا التفضيل بهذه الصفة غلط في التعبير وخطأ في التفضيل لا يصدر إلا عن جهل عريق وجفاء عميق.. فإن الشهور الشمسية لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب، وأكثرهم لا يعرفها ولا يعرف اسم الشهر ولا كم مضى منه إلا عن طريق الجداول المخصصة لها، لأنها ليست بشهور مشهورة تشاهد بالعيان، وإنما هي عبارة عن حزر[147] أيام يسمونها أشهرًا، وأكثر العامة لا يعرفونها ولا يعرفون كم مضى من الشهر. وقد عمل علماء المسلمين طريقة لحساب السنة لا تتغير شتاءً ولا صيفًا، فجعلوا السنة اثني عشر برجًا، أي كل فصل على مقدار الشهر فبعضها ثلاثون وبعضها واحد وثلاثون وبعضها تسعة وعشرون، فجعلوا للشتاء ثلاثة بروج أحدها الجدي وهو تسعة وعشرون يومًا، والدلو ثلاثون يومًا، والحوت ثلاثون يومًا. وللربيع ثلاثة بروج أحدها الحمل وهو واحد وثلاثون يومًا، وبرج الثور واحد وثلاثون يومًا، وبرج الجوزاء اثنان وثلاثون.. وهكذا سائر البروج فما من شيء من المحاسن إلا وقد سبق الإسلام إليه وأخذ بالنصيب الوافر منه. أما الشهور العربية القمرية فكل الناس يعرفونها لشهرتها ومشاهدتهم لها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ [التوبة: 36].

وقال سبحانه: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ [البقرة: 197]، وقال: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ [البقرة: 185] وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا»، وفي رواية قال: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ»[148].

فهي شهور مشتهرة متركزة في السماء يستوي في العلم بها العالم والعامي والحضري والبدوي والرجال والنساء، حتى إنهم ليعرفون كم مضى من الشهر بمعرفة منزلة القمر، لكونه منصوبًا لكافة الناس في معرفة صومهم وحجهم والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب أن يكون ثابت الأركان لا يتغير في مكان دون مكان، كما أن علماء الهيئة في هذا الزمان أثبتوا عدم تغيره في مطلعه ومغيبه، وأن طلوعه في المشرق كطلوعه في المغرب على حد سواء.

فإذا طلع في المشرق قبل الشمس طلع في المغرب قبلها، وإذا غاب في المشرق قبل الشمس غاب في المغرب قبلها على حد سواء، وما يذكر من اختلاف المطالع عند استهلاله فمنشؤه من تحقق الرؤية وعدمها وإزالة المانع ووجوده، فالاختلاف هو من الرؤية لا من المرئي. وإنما سمي شهرًا لشهرته، كما سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، يقول الله تعالى: ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189] وسبب هذا السؤال أن أناسًا من الصحابة قالوا: يا رسول الله إن الهلال يبدو ضعيفًا ضئيلاً ثم يكبر إلى أن يصير بدرًا ثم يأخذ في النقص إلى أن يضمحل. فأنزل الله سبحانه ﴿۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ [البقرة: 189]، فعدل بهم - سبحانه - عن الاشتغال بالسؤال عن جرم الهلال إلى الإخبار بما يترتب عليه خلق الهلال من المصالح والأحكام، إذ هي المقصود الأعظم من خلق الهلال، يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

* * *

[147] حزر: تقدير. [148] أخرجه مالك في الموطأ من حديث ابن عباس.