فصل في بشرى أهل الإسلام ببلوغ شهر الصيام
يقول الله سبحانه: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٨٥﴾ [البقرة: 185].
ففي هذه الآية التنويه بفضل شهر رمضان الذي أوجب الله فيه الصيام، كما فيها التنويه بفضل القرآن الذي أُفيضت فيه على جميع البشر هداية الرحمن ببعثة محمد ﷺ برسالته المتضمنة للهداية العامة لجميع الأنام ﴿وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧﴾ [النمل: 77].
إن شهر رمضان هو غرة الزمان ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام. فمن جحد وجوبه فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان. قال ابن عباس - حبر الأمة وترجمان القرآن-: ثلاثة أسس عليها الإسلام: الشهادتان والصلاة والصيام. [144]
افترض الله صيام رمضان على النبي ﷺ في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله ﷺ تسع رمضانات وصام المسلمون معه، ووافق فرضه شدة الحر مع نهاية طول اليوم مع عدم اعتيادهم للصوم، ومع ذلك قالوا: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥﴾ [البقرة: 285].
وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام، وهذه هي الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، فقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ [البقرة: 185] سمي الشهر شهرًا لشهرته، لأن الله سبحانه نصب الشهر علامة لجميع الناس يعرفون به ميقات صومهم وحجهم وعِدَد نسائهم وحلول ديونهم.
وكان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدومه، كما روى ابن خزيمة في صحيحه عن سلمان، قال: خطبنا رسول الله ﷺ في آخر يوم من شعبان فقال: «إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء».
فسماه رسول الله ﷺ شهر الصبر، لأن فيه صبرًا على طاعة الله من الصيام والصلاة، وصبرًا عما حرم الله من الطعام والشراب وسائر ما يفطر الصائم أو يجرح صومه أو ينقص ثوابه وأجره. وصبرًا على أقدار الله المؤلمة ومنها الصوم الذي قدره الله وفرضه على عباده. وسماه «شهر المساواة»، لأن المسلمين يتساوون فيه في الجوع لرب العالمين غنيهم وفقيرهم، فيصبح المسلم صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضى ربه ومحبوبه. والله يقول: «الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [145]
«وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ»: يعني أن الخيرات وسعة الأرزاق تنبسط في رمضان حتى تكون أوفر فيه من غيره. وكان الفقراء يفرحون بقدومه لاتساع الرزق عليهم لأن للطاعات أثرها في سعة الرزق وبسطته.
والصوم عبادة دينية ورياضة بدنية وتأديب للشهوة الإنسانية لتتعود الصبر على طاعة الله ثم الصبر عما حرم الله، وحتى يقوى صاحبها على كبح جماح نفسه عن الشهوات وعلى ترك المألوفات والمحرمات.. ولهذا أسماه رسول الله ﷺ «شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ» ، ولم يشرع الله الصيام إلا لمصلحة تعود على الناس في أديانهم وأبدانهم وإيمانهم، لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، كالصيام والصلاة والزكاة إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، لكون الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودفع المضار، فهي عنوان النظام والكمال والتهذيب.
كما أن الصيام نوع من الجهاد في سبيل الله، لكون المجاهد هو من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل، وقد وعد الله المجاهدين في سبيله بأنه لا يصيبهم جوع ولا ظمأ ولا تعب إلا كتب لهم به حسنات ورفع درجات في الجنات. فقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢٠ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢١﴾ [التوبة: 120-121] من سورة التوبة.
والصوم هو من أسباب الصحة للأبدان ويستشفى به من أدواء كثيرة، أهمها داء السكر الذي هو داء المترفين، لأن في البدن فضولاً سيالة تنشف بالصوم فتقوى العضلات ويعتدل الهضم ويشتهي الطعام باشتياق أشبه تضمير الخيل للسباق فهو من الحمية التي تعقب البدن الصحة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «صُومُوا تَصِحُّوا»[146]، وقال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةً، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. يعني أن الصوم يزكي البدن وينميه.
ومن المشاهد بالاعتبار أن الذين يعتادون التطوع بالصيام أنهم من أصح الناس أجسامًا وأطول الناس أعمارًا، ويجدون قوة ولذة في صومهم أشد مما يجدها المتنعم في أكله وشربه، وللصائم فرحة عاجلة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم تقبل الله منهم.
* * *
[144] أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس. [145] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [146] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة.